هل يصبح التعهيد («أوت سورسينغ» Out Sourcing)، وهو مصطلح يملك رنيناً إيجابياً في أوساط كثيرة في الدول العربية والنامية، مدخلاً لتحويل هذه الدول مختبرات حيّة للشركات العملاقة في صناعة الأدوية؟ امتلك مفهوم التعهيد سمعة طيّبة في أوساط المعلوماتية، إذ نُسبِ إليه تقدّم دولة كالهند في مجال المعلوماتية والاتصالات. ماذا عن التجربة المصرية مثلاً في هذا المجال؟ لماذا لم تتحوّل مصر عملاقاً معلوماتياً، على رغم مراهنة أوساطها الرسمية طيلة حكم مبارك، على قدرة التعهيد على إيصال مصر الى مستوى الهند و...أكثر! ليس بالأبيض والأسود يعني التعهيد ان الشركات تنقل مجموعة من العمليات المتّصلة بمنتجاتها، من المركز الغربي الى دولة في العالم الثالث. تؤدي أمور متشابكة أدواراً متقاطعة في هذا الصدد، ما يعني عدم اللجوء الى مواقف ال «لا» وال «نعم»، بمعنى ضرورة عدم رؤية الأمور بمنظار الأبيض والأسود، في هذا الشأن الفائق التعقيد. فمثلاً، يحمّل كثيرون في أوروبا والولايات المتحدة لجوء الشركات الى استراتيجية التعهيد في الصناعات التقليدية (السيارات نموذجاً) والمعلوماتية، وزر الأزمة الاقتصادية التي لم تنفرج بعد منذ انفجارها في العام 2008. ويرى مناصرو التعهيد في العالم الثالث أن رخص الأيدي العاملة المُدرّبة فيها، ليس مأخذاً على التعهيد، لأن هذه الأيدي ما كانت لتجد عملاً أصلاً لولا لجوء الشركات الغربية إليها في سياق التعهيد. في المقابل، ثمة مآخذ اخرى عميقة على التعهيد، خصوصاً بالنسبة الى مسألة «نقل التكنولوجيا» («تكنولوجي ترانسفير» Technology Transfer). ففي معظم تجارب التعهيد، خصوصاً المتّصلة بالمعلوماتية والاتصالات المتطوّرة، لوحِظَ أن الشركات العملاقة لا تنقل نواة التكنولوجيا الصلبة الى العالم الثالث، بل تكتفي بنقل ما يكفي لإنجاز مراحل إنتاجية تكون مرتفعة الكلفة لو أنها أُنجِزَت في الدول المتقدّمة. وفي المقابل، لا تُنجز عملية نقل التكنولوجيا من دون أن تنهض الدول النامية بمهمة إعداد نفسها، ضمن خطط علمية مدروسة، لاستقبال التكنولوجيا المتطوّرة وما تضمّنة من معارف وتقنيات ومسارات. (أنظر «الحياة» في 27 آيار - مايو 2012). زادت حدّة هذا النقاش مع ميل شركات صناعة الأدوية الى اتّباع استراتيجية التعهيد في بحوث البيولوجيا. ويعني هذا الأمر، ببساطة، أن هذه الشركات ستتفلّت من القيود القاسية التي تفرضها الدول المتقدّمة على بحوث التكنولوجيا البيولوجية، لتنقلها الى دول نامية تفرض قيوداً أقل صرامة، ولا تملك مؤسسات عالية التأهيل لرصد مؤشّرات هذه القيود، إضافة الى وجود فساد مستشر فيها، ما يزيد الأمور سهولة على الشركات العملاقة! فمثلاً في صناعة الأدوية واللقاح، تفرض الدول الغربية إجراء بحوث تشمل مئة ألف شخص على الأقل، قبل السماح بإنتاج الدواء أو اللقاح لطرحه في الأسواق. لا يوجد شرط كهذا في معظم دول العالم الثالث. في مثال آخر، استطاعت الهند أن تتصدر سوق انتاج اللقاحات الرخيصة الشائعة، لكن احتُكِرَت صناعة اللقاحات الغالية الثمن إلى حدّ أن لقاح الكبد تحتكره شركتان عملاقتان بصورة حصرية كلياً! اتجاهات تعهيد علوم الحياة في الآونة الأخيرة، نشرت شركة «بوز أند كومباني» تقريراً مُطوّلاً عن مسألة التعهيد في بحوث الصحة، خصوصاً الشق العيادي منها، بمعنى أنه الشق المرتبط بالتجارب المباشرة على المرضى، وهو الشقّ الأكثر تعقيداً في صناعة الأدوية. في هذا الصدّد، صرّح غابي شاهين، وهو شريك في «بوز أند كومباني»، بأن النقص في القدرات الداخلية بالنسبة إلى كثير من الشركات يدفعها إلى اتخاذ قرار باللجوء الى التعهيد. وقال: «ترى الشركات في اللجوء إلى مؤسسات البحث العيادي طريقة للتعويض عن قيودها الداخلية». وأشار خمسون في المئة من الشركات التي استقصت «بوز أند كومباني» آراءها إلى أنها ربما انتقلت إلى استراتيجية التعهيد للتعويض عن نقص في القدرات الداخلية أو في الطاقة، بينما أعرب 44 في المئة عن رغبتهم في تقليص تكاليف التطوير. وبديهي القول إن هذه الأمور تحتاج الى نقاش أكثر تعمّقاً.