في السياسة، ارتبط مصطلح التعهيد («أوت سورسينغ» Out Sourcing) بالتفكيك («ديلوكالايزيشن» Delocalization)، بمعنى أن الشركات الكبرى في صناعات أساسية عدّة، ارتأت أن تنقل بعض عملياتها ومصانعها خارج الدول الغربية، لأهداف تتضمّن خفض النفقات وتعظيم الأرباح والاستفادة من رخص اليد العاملة المُدرّبة (وأحياناً العالية التدريب) في الدول النامية. سرعان ما ظهر أن لهذا الأمر «مواجع» عدّة. يكفي التنبّه إلى بعض ما يظهر في خطب الاحتجاج على العولمة المنفلتة، بداية بانتخاب الاشتراكي فرانسوا هولاند رئيساً لفرنسا، ومروراً بأزمة منطقة اليورو، والاستعصاء السياسي في اليونان، ووصولاً إلى حركة «احتلوا وول ستريت» وغيرها. قبضة التعهيد الثقيلة على عكس الصورة الشائعة، لا يعني التعهيد أن الشركات تفلت زمام ما تملكه من معارف وعلوم، فينتقل إلى البلدان النامية. الأرجح أن الأمر يعاكس هذه الصورة. ففي التعهيد، تنقل الشركات جزءاً من عملياتها من بلد إلى آخر، مع الاحتفاظ بالنواة الصلبة للمعرفة المتّصلة بهذه العمليات بيدها. وتختار الشركات بلداناً تراكمت فيها معرفة علمية إلى حدٍ ما، فتستفيد من خبرات البلد الذي تنتقل إليه. في المعلوماتية والاتصالات، تعطي الهند نموذجاً واضحاً عن هذا الأمر، إذ نقلت شركات المعلوماتية والاتصالات إلى الهند، عمليات لوجستية كان اختصاصيو الهند وتقنيوها على درجة عالية من المهارة والدراية فيها أصلاً. ومن دون كثير مجازفة، يمكن القول إن عملية مُشابهة جرت في صناعة اللقاح مثلاً، إذ باتت الهند تنتج تسعين في المئة من لقاح الحصبة، ما يعني تخلص الشركات العملاقة من أعباء إنتاج أصبح معروفاً ومكشوفاً بالنسبة إلى العقول الهندية، وتالياً صار إنتاجه بالتشارك مع هذه العقول، أكثر ربحية للشركات العملاقة نفسها! ولمزيد من الوضوح، يكفي السؤال عن عدد الشركات التي تنتج لقاحات أكثر تكلفة وتعقيداً، وبالتالي ربحية، مثل لقاح الكبد؟ الجواب: شركتان تحتكران هذا المجال عالمياً. ويبدو أن هناك دولاً نامية راكمت معرفة علمية كافية، فباتت تُغري الشركات العملاقة بنقل بعض أعمالها إلى تلك البلدان، عبر أسلوب التعهيد «أوت سورسينغ». واستطراداً، يصعب التغاضي عن أن بعض هذه المعرفة المتراكمة في الدول النامية، جاء بأثر التفاعل إيجابياً، وعبر رؤية معمّقة باتت مفقودة عربياً، مع المراكز الغربية في التقدّم العلمي. نموذج؟ وضع الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون معلومات الشيفرة الوراثية للإنسان بصورة مفتوحة على الإنترنت، كي تكون في خدمة البشرية جمعاء. وبالتجربة، ثبت أن دولاً مثل الهند والصين والبرازيل وإسرائيل والأرجنتين وكوريا الجنوبية، هي الأكثر دخولاً على الموقع الذي يحتوي جينوم الإنسان. ولا داعي للقول إن العرب يحتلون ذيل القائمة في هذا المجال! في الآونة الأخيرة، ظهر ميل لدى الشركات التي تعمل في علوم الحياة (بيولوجي Biology)، لتبني أسلوب التعهيد في بحوث البيولوجيا، مع التذكير بأن البحث عن الشيفرة الوراثية لأي كائن حيّ هو النموذج الأشد وضوحاً عن هذا النوع من البحوث. وبحسب وثيقة صدرت قبل أيام عن شركة الاستشارات العالمية «بوز أند كومباني» Booz & Company، أنها تابعت نقاشاً مع منظمة «باي بايو» BayBio (مقرها نورث كارولينا)، يظهر أن الشركات العملاقة تسعى إلى زيادة حجم العمل الذي تعهده لجهات خارجية، بالترافق مع تطوّر هيكل مؤسسات البحث العيادي في تلك البلدان. وأجرت «باي بايو» مسحاً للتعمّق في الطُرُق التي تكفل الاستفادة من هذا التوجّه، خصوصاً في البحوث العيادية. وسعت هذه الدراسة التعاونية إلى التعرف إلى إجراءات تعهيد التطوير العيادي لدى الدول المشاركة في مؤسسة «باي بايو». وتضمنت النتائج الرئيسية لهذه الدراسة أن البلدان التي قد تنتقل إليها عملية تعهيد بحوث البيولوجيا، تتوقع أن تتطوّر بحوثها علمياً ولوجستياً، فيما تتوقع الشركات تقليص التكاليف والوصول إلى «نماذج» جديدة من المرضى في هذه البلدان، التي تنتمي غالبية منها إلى دول العالم الثالث! ولاحظت الدراسة أن الشركات العملاقة تستفيد أيضاً بأثر من تخفيض التكاليف وسهولة الوصول و «ضبابية» القوانين التي تكفل حماية المرضى أثناء البحوث إضافة إلى تعويضهم بطريقة عادلة إنسانياً في حال الخطأ، خصوصاً بالمقارنة مع القوانين السارية في البلدان الغربية.