بينما يتوقع مراقبون تقهقر آل الأسد والعلويين إلى الجبل الذي يحمل اسمهم، لا بد من التذكير بأن الدولة العلوية مسألة يعود طرحها إلى عهد الانتداب الفرنسي. الأمر متعلق إذن ب «إعادة للتاريخ» بحسب العبارة التي استعملها دومينيك شوفالييه (في محاضرة ألقاها في المدينة الجامعية الدولية في باريس عام 1976 حول أصول الحرب الأهلية اللبنانية). قسّم الجنرال غورو، المفوض السامي الفرنسي، يوم أقيم الانتداب على سورية ولبنان (1920-1946)، سورية إلى دول ذات حكم ذاتي (ودولة مستقلّة، هي لبنان الكبير)، وذلك بتأثير نظريات روبير دو كاي العضو البارز في الحزب الاستعماري الفرنسي. وكان الأمر متعلقاً، بحسب مبدأ «فرّقْ تسُد»، بالالتفاف على المعارضة المتمثلة بالعروبيين في سورية وذلك بتأليف قلوب الأقليات المحلية وجعلها من زبانية الانتداب السياسية. وعلى ذلك فقد أُقيمت «بلاد العلويين» عام 1922. لتضمّ مدناً ساحلية كانت منفصلة تاريخياً عن جبل العلوييّن، وهي تمتد على وجه العموم من الحدود اللبنانية جنوباً إلى تخوم سنجق الإسكندرون شمالاً. كذلك فإن مدينتي حمص وطرابلس السنيّتَين المشرفتَين على أرياف يشكل العلويون جزءاً من سكانها كانتا لها مفتاحيَن حدوديّين. كان في سورية في عام 1918 مائتا ألف علوي منهم ستون ألفاً في سنجق الإسكندرون. وكان هؤلاء، نظراً لأنهم في معظمهم من سكان المدن، يتمتعون بموقع اقتصادي واجتماعي أرفع بكثير من أبناء دينهم من سكان الجبل. فجبال النصيرية، بمقتضى ما كانت تسمّى في تلك الحقبة، كانت في أوائل القرن العشرين «على هامش العالم المتحضّر»، وذلك في الأساس بسبب غياب البنية التحتية في مجاليْ الطرق والتعليم. وكان سكّان هذه الجبال شبه غائبين عن مدن الساحل (في عام 1924، كان في اللاذقية خمسمئة علوي وكان عدد سكانها 25 ألفاً). قامت ذاكرة الجماعات من الأقليات الموصوفة بأنها «متراصّة»، المتجمّعة في «جبال - ملاذات»، حول رواية عن الاضطهاد في إمبراطورية عثمانية تتبع النظام القديم الذي لا يعترف بمبدأ المساواة بين الأفراد من أتباعه (وذلك إلى عام 1856) وفي إمبراطورية مسلمة يرتبط فيها الاعتراض على الدين بالاعتراض على السلطة السياسية المتمثلة بالسلطان - الخليفة. (وهذا موقف مطابق لما كان سائداً في الإمبراطورية البيزنطية أيضاً). وتُضاف هذه الذاكرة في المسألة العلوية إلى احتقار اجتماعي مُعمّم كان يميّز النظرة إلى هذه الجماعة الريفية المنعزلة المقسمة إلى عشائر وأفخاذ تتفشّى فيها الأميّة إلى مدىً كبير. ولذلك فإن علويّي الجبل قد ناهضوا من البداية مبدأ انضمامهم إلى سورية. علاقة الجبل ودمشق على أن التأريخ الرسمي السوري يعتبر حركة الشيخ صالح العلي المسلحة (وكان من أعيان العلويين ومن أوائل الذين حملوا السلاح في مواجهة الفرنسيين في أواخر كانون الأول (ديسمبر) 1918، بمساعدة لوجستية من الحكومة العربية في دمشق) دليلاً يحتمل معنى العروبة، فيما كانت جميع الحركات المسلحة في مواجهة الاستعمار ما بين عامي 1919 و1921 مركّزة، على العكس من ذلك، على الدفاع عن موقع محلّي وعن نظام اجتماعي تقليدي. إلا أنه يكفي للإضاءة على المسافة الذهنية والجغرافية التي كانت تفصل حينها بين الجبل ودمشق المتأججة عاصمة العروبة الوليدة، أن نذكّر بغياب العلويين الكامل عن المؤتمر السوري العام الذي التأم في ربيع عام 1919 تحت رعاية الأمير فيصل بن الحسين. وُضعت «بلاد العلويين» عام 1922 تحت إدارة الحكومة الفرنسية المباشرة يساعدها مجلس تمثيلي محلّي موزّع على أساس طائفي. وقد وُفّق الفرنسيون، إذ أنشأوا دولة للعلويين تضمن للجبل حكماً دائماً وتحفظ سلطة نُخَبِهِ التقليديين، وأقاموا بعض المشاريع ذات المنفعة العامة فاكتسب الانتداب حظوة لدى السكان وانخرط جزء منهم منذ ذلك الحين في كتيبة المشرق الثانية، المؤلفة بكامل أفرادها من العلويين. وعلى وجه أعم، فإن سياسة المنتدب بدأت باحتضان الجماعات من الأقليات تدريجياً، وذلك بمنحهم اعترافاً رسمياً مرفقاً بالطبع بتشريع ديني وقانون للأحوال الشخصية خاص بهم، وكانت كل هذه الامتيازات ممنوعة على الجماعات «الخارجة عن الإسلام» في الإمبراطورية العثمانية. إلا أنه كان على فرنسا أن تتخلى عن سياستها العسكرية في سورية بعد قيام «الثورة السورية الكبرى» (1925-1926)، التي وصلت إلى حدود الدولة العلوية فوقفت عندها، وأن تبدأ سياسة «التفاهم» مع الوطنيين السوريين بهدف الوصول إلى توقيع معاهدة فرنسية سورية على مثال المعاهدة التي وقّعت عام 1930 بين العراق وبريطانيا العظمى. ولسوف تحدّد هذه المعاهدة ما ستؤول إليه العلاقات السورية بفرنسا ولا سيما في ما يختصّ بالوضع القانوني للمناطق السورية. أما معارضو الانتداب، وكانوا قد اجتمعوا تحت لواء الكتلة الوطنية منذ عام 1927، فإن رهانهم المركزي المتعلّق بالمعاهدة قد كان على الوحدة السورية، ما يعني ضمّ الأراضي التي فصلتها فرنسا بصورة عشوائية عن الدولة السورية (دمشق – حلب). ومهما بدر من بوادر حسن نية الوطنيين السوريين، فقد كان على سلطة الانتداب، إن أرادت الحفاظ على موقعها في سورية، أن تواصل الطعن في قدرتهم على الحكم وعلى تأمين السلام بين الجماعات وحقوق الأقليات. رفض الوحدة يحفظ الأرشيف الديبلوماسي في وزارة الخارجية الفرنسية (فئة E) وثائق نفيسة تُضيء لنا تلك الحقبة شبه المجهولة من تاريخ سورية. وقد صرّح أعيان العلويين، من المعسكر الانفصالي بعد أن اجتمعوا في مؤتمر من 13 إلى 19 شباط (فبراير) 1933، برفضهم الوحدة. أما في معسكر الوحدويّين السوريين فإن المؤتمر الوطني في حلب الذي عقد من 17 إلى 19 شباط عام 1933، قد انفضّ عن بيان يربط بين المفاوضات حول المعاهدة وبين مسألة الوحدة. فما كانت حُجج أنصار الوحدة السورية وحُجج معارضيها؟ كان أنصار الانفصال عن سورية يتألفون من رؤساء دينيين ومشايخ عشائر ونواب وأعيان من العلويين. وقع 79 منهم على الرسالة الموجّهة إلى المفوض السامي إثر اجتماع شباط 1933. وقد طلبوا: – الاستقلال الإداري – توسيع سلطات المجلس التمثيلي. – توزيع المواقع في الوظائف العامة بحسب العدد لكل طائفة. – خفض الضريبة لحكومة اللاذقية. – تعليق أعمال التبشير الدينيّة (ولا سيما اليسوعيّة منها) كان مطلب الحكم الذاتي في الجبل إذن مؤسَّساً على رغبة شديدة في الحفاظ على الطائفة مقرونة برغبة الأعيان في مضاعفة سلطتهم عليها بسلطة على الدولة (كما في لبنان). وكانت الفروق بين العلويين والسوريين معتبرة بأنها غير قابلة للتقريب، فالسوريّون في نظر العلويين هم السُنّة. وتقوم الحجة في ذلك على تأكيدين واحد تاريخي والآخر ديني: 1- لا يُعدّ العلويّون من المسلمين؛ 2- تقوم العلاقة بين العلويين والسنّة على الاضطهاد، ولذلك يُبقي السنّة على العلويين في موضع التخلف. طالب الموقعون على الرسالة بإخضاعهم لقانون الأقليات لكي يتمكنوا من طلب الفيديراليّة مع لبنان، فبنظرهم كان العلويّ يشارك اللبناني (أي الماروني) قدر «الاضطهاد السنّي» في الماضي. أما معسكر الوحدويين في حكومة اللاذقية فكان يتألف من السّنة ومن ممثلين عن جماعات الأقليات (من علويين ومسيحيين). وكان هؤلاء يرون أنهم ملزمون بالكلام على أنهم من الأقليات لكي يدحضوا حُجج الفرنسيين والانفصاليين ولكي يسقطوا ادعاءات خصومهم في تمثيل الجماعات التي ينتمون إليها. هذا وقد عُقد في صافيتا في آذار (مارس) 1933 مؤتمر مسيحي حضره شيوخ عشائر من العلويين، ونودي فيه بالوحدة. ونعلم من العرائض الموجّهة إلى وزير الخارجية الفرنسي أن من الوحدويين شيوخ عشائر علويّة من الخياطين والمطاورة ومن كبار رجال الدين العلويين. ويتألف العنصر الديناميّ في معسكر الوحدويين من شباب مثقف وأطباء ومحامين من جميع الطوائف: مثلاً، منير العباس، نائب طرطوس المنتخب، ويحمل شهادة الدكتوراه في الحقوق. وترتكز حُججهم جزئياً على رؤية أوسع لدولة للجميع، حيث تكون الكفاءات مفتاح توزيع المناصب، وعلى المطالبة بتعليم رسمي جدّي. العلاقة بالأقليات الأخرى واجتمع الوحدويون والانفصاليون، بطريقة ملفتة للنظر، على انتقاد الضريبة المفروضة على منطقتهم وعلى رفض أعمال التبشير اليسوعي. على أن الوحدة تستدعي الاعتراف بخصوصيات المناطق والجماعات، حتى ولو أنكرها الخطاب الوطني. وذلك لأن المطالبة بالوحدة ترتكز، في مقام الهويّة، على تعريف للعلوي يُلغي جميع الفروق: العلويّون مسلمون، أو شيعة مسلمون، بهذه الرواية أو تلك، وهم سوريو الجنسيّة وعرب في الأصل. وفي 15 تموز (يوليو) من عام 1936 أصدر بعض «علماء المسلمين العلويين» في اللاذقية فتوى تقول بأن «كل علويٍّ مسلم...». وقد وجّه منير العباس رسالة إلى وزير الخارجية في باريس يدعم فيها هذه الفتوى. على صعيد الهوية يتمسّك الانفصاليون بفروق غير قابلة للتقريب، ويندفع الوحدويون إلى تماثل بالجماعة الأكثريّة. وُيذكر هنا أن العلاقة بالحداثة، المفترض أن تكون قد أدخلتها الدولة الحديثة، مختلفة عند الطرفين؛ فالانفصاليون يتوسلون الرمز السياسي المتمثل في التقدم لكي يطالبوا بمساواة تبرر دستور دولة للأقليات، وهذا هو الحال في لبنان، حيث لا تحديد لمرجع المساواة أهي بين الناس – وبذلك يفقد مبدأ الأقليات سبب وجوده – أم إنها بين الجماعات – وبذلك تفرغ المساواة من معناها الأوروبي. أما في ما يختصّ بالعلويين الوحدوييّن فقد احتجّوا بأن الوحدة السورية تكون مرحلة في طريق التقدم السياسي لأنها تشكّل، بالإضافة للتربية، شرط الوحدة الوطنيّة. لقد اعتمد الانفصاليون مسألة المساواة في الإقناع بصحة رأيهم، أما الوحدويون فاعتمدوا مسألة الحرية وشعارها الوحدة الوطنيّة.استجابت باريس جزئياً لمطالب الوطنيين يوم وقّعت معاهدة 1936، وانتهت إلى إلحاق دولتي العلويين والدروز بسورية عام 1939. ومن الجدير بالذكر أن والد حافظ الأسد، علي سليمان الأسد من قرية القرداحة الصغيرة، المنتسبة إلى عشائر الكلبية، كان في معسكر الانفصاليين. وقد روّج ابنه حافظ، بعد أن استلم السلطة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، لمبدأين: – القوميّة العربية وهي تنفي الفروق بين الجماعات (باسم العروبة المشتركة). – انتماء العلويين إلى الإسلام، المبرّر، على وجه الخصوص، بوجوب انتماء رئيس الجمهوريّة إلى الإسلام بحسب الدستور. هذان مبدآن يشرّعان موقع آل الأسد في الدولة، إلا أنهما مرفقان بسلوك دائم كان ولا يزال نفياً لهذه المواقف الرسمية: الوالد والجد فباسم الأمة العربية قام حافظ الأسد وابنه بخدمة مصالح جماعته وعشيرته. وفيما يُعتبر العلويّون مسلمين رسمياً، فإن جميع أعمال سلطة آل الأسد تهدف على العكس من ذلك إلى إذكاء ذكريات الاضطهاد السني في النظام القديم والخوف من الآخر، هذا الآخر المتمثل اليوم «بالإسلاميين» من ذوي المواصفات المُبهمة الخارجة على الزمن، وتُطابق صورتهم صورة السلفيين. بعد أكثر من أربعين سنة على سيطرة آل الأسد على الحكم بلا منازع، وصلت رسالتهم المزدوجة المضمون إلى معظم أبناء الطائفة العلوية على نحو كامل، تشهد بذلك الأزمة السورية الحالية... إن العديد من العلويين الديموقراطيين والمنتقدين للنظام والمناهضين للطائفية علناً، قد ارتدوا فجأة إلى أحضان انتمائهم إلى طائفتهم بما فيه من خوف وتعامٍ. بالنظر إلى الثورة السورية الدائرة فإننا نختم بعدة ملاحظات ذات صفة فرعية، أُولاها أن أي انفصال قائم على أساس أحادي الجماعة في الشرق الأدنى لم يصل إلى مبتغاه. وثانيتها أن أقلية واحدة، هم الموارنة، نجحت، أوّل الأمر، في إقامة دولتها، وقد اضطرت إلى أن تتشارك فيها مع الدروز والمسلمين في المناطق الملحقة بها عام 1920. وقد مكننا مرور الزمن التاريخي من قياس مدى فشل الموارنة في البناء الوطني اللبناني. وتتحمل النخب المارونيّة مسؤولية باعتبار الطائفة وباعتبار الأقلية المنحدرة من النظام العثماني القديم، والمنقولة إلى الدولة الحديثة. وتتحمل النخب العلويّة في سورية المسؤولية نفسها في الحرب الأهلية الحاليّة التي تخفي اسمها: بعد ما يقارب القرن من تأسيس الدولة الحديثة في سورية يُصرّ علويّون على التصرف باعتبارهم أقلية من النظام القديم يقوم تماسكها على الخوف من الآخر. كذلك فإن شيعة لبنان، عبر تنظيميْهم الأكثريَّين، حزب الله وحركة أمل، ليسوا بعيدين عن اقتراف الخطأ نفسه الذي ارتكبته الأقليتان التاريخيتان الأخريان، وذلك بالتضحية بمصالح الدولة في سبيل مصالح طائفة واحدة. على أنه يبقى لدى النخب وكذلك لدى عامّة الناس من كل الجماعات ذاكرة عيش مشترك جنباً إلى جنب. فأزمنة السلم كأزمنة الصراع، تبتدع مشهداً ذهنيّاً يكون الآخر حاضراً فيه. ويحيل ازدواج صورة الآخر – الجار، الذات/ الخصم، العدو – إلى البنية الاجتماعية العربية في الشرق الأدنى، وفيها يحدد وجود المجموعة عينه بتقابله مع وجود مجموعة أخرى. وقد يُظهر هذا التعارض مدى التجذّر التاريخي والنفسي للتعايش بين الجماعات ولتكرّر الصراع بينها في آن معاً. ولعل هذه المفارقة تفتح اليوم باباً للأمل في مواجهة الأبواب الأخرى كلها. توزيع السكان في حكومة اللاذقية عام 1936 علويّون 224000 مسلمون سنة 64 000 روم أرثوذكس 43 000 إسماعيليون 6 000 موارنة 6 500 مسيحيون آخرون 6 500 المجموع في حكومة اللاذقية 350 000 * المصدر: MAE, E 412, V. 493, F. 234, Mémoire du Gouvernement de Lattaquié, août 1936, d'après les données de l'Etat-civil. * بيبليوغرافيا Gérard D. KHOURY 2006, Une tutelle coloniale – Ecrits politiques de Robert de Caix, Paris, Belin. Philip S. KHOURY 1987, Syria and the French Mandate – The Politics of Arab Nationalism 1920-1940, London, I.B. Tauris &Co. Nadine MEOUCHY 2006, « La réforme des juridictions religieuses en Syrie et au Liban (1921-1939) : raisons de la puissance mandataire et raisons des communautés », in P.-J. LUIZARD (dir.), Le choc colonial et l'Islam, Paris, éditions La Découverte, p. 359-382. Nadine MEOUCHY 2010, « From the Great War to the Syrian Armed Resistance Movement (1919-1921) : the Military and the Mujahidin in action », in H. LIEBAU et alii, The World in World Wars – Experiences, perceptions and perspectives from Africa and Asia, Leiden-Boston, Brill, p. 499-517. Sabrina MERVIN 2006, « L' « entité alaouite », une création française », in P.-J. LUIZARD (dir.), Le choc colonial et l'Islam, Paris, éditions La Découverte, p. 343-358. P.-J. LUIZARD (dir.), Le choc colonial et l'Islam, Paris, éditions La Découverte, p. 359-382. Jacques WEULERSSE 1940, Le Pays des Alaouites, Thèse imprimée, 2 vol. Institut français de Damas, Tours .