جروندبرج: تحقيق السلام باليمن ضرورة ملحة لاستقرار المنطقة    برشلونة يهزم أوساسونا بثلاثية في الدوري الإسباني    إعادة النبض لمعتكف بالمسجد النبوي تعرض لنوبة قلبية    تنفيذ إخلاء طبي جوي من المسجد الحرام عبر مهبط الإسعاف الجوي الجديد    الشراكة ثقة    أمران ملكيان: خالد بن بندر مستشارًا في الخارجية والحربي رئيسًا للجهاز العسكري    مختص ل"الرياض": انتظار العطلات سعادة    التطوّع في المسجد النبوي.. تجربة تجمع بين شرف المكان وأجر العمل    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق منخفضة    جراحة مخ ناجحة تُنقذ معتمرًا مصريًا من إعاقة دائمة    «البيئة»: عسير تتصدر 6 مناطق شهدت هطول أمطار    "أوتشا" تحذّر من الآثار المدمرة التي طالت سكان غزة    النفط يرتفع وخام برنت يصل إلى 74.03 دولاراً للبرميل    ألونسو ينفي الشائعات حول مستقبله مع ليفركوزن    رئيس وزراء كندا: زمن التعاون الوثيق مع أميركا «انتهى»    تجمع جدة الصحي الثاني ينفذ حملة "صُمْ بصحة" لمواجهة الأمراض المزمنة    المواسي مديرًا لإدارة الموارد البشرية في بلدية بيش    عيد الحلاوة    سافيتش يشارك في تدريبات الهلال وتأكد جاهزيته    جوائز كأس العالم للأندية 2025    أكثر من 70 ألف مستفيد من برامج جمعية الدعوة بأجياد في رمضان    ترقب كبير لبزوغ نجوم سعوديين في آسيوية ألعاب القوى بالقطيف    نادي القادسية يتسلّم شارة منتدى الاستثمار الرياضي    أندية "روشن" تجدد اهتمامها ب" فان دايك"    أسمنت المنطقة الجنوبية تدشن مبادرة السعودية الخضراء ضمن فعاليات "أجاويد 3" بمحافظة بيشة    انخفاض معدل البطالة بين السعوديين إلى أدنى مستوى تاريخي    يوم "مبادرة السعودية الخضراء".. إنجازات طموحة ترسم ملامح مستقبل أخضر مستدام    تكثيف الحملات الرقابية على المسالخ وأسواق اللحوم والخضار بحائل    "مستشفيات المانع" تُطلق أكثر من 40 حملة تثقيفيةً صحيةً خلال شهر رمضان المبارك لتوعية المرضى والزوار    أمر ملكي: ترقية اللواء الركن صالح بن عبدالرحمن بن سمير الحربي إلى رتبة فريق ركن وتعيينه رئيسًا للجهاز العسكري    التعادل الإيجابي يحسم ودية الفتح والقادسية في الخبر    مركز الملك سلمان للإغاثة يتيح إمكانية إخراج زكاة الفطر عبر منصة "ساهم" إلى مستحقيها في اليمن والصومال    هيئة العقار: الاثنين المقبل موعد انتهاء مدة تسجيل العقارات ل4 أحياء بالمدينة المنورة    المحكمة العليا تدعو إلى تحري رؤية هلال شهر شوال مساء يوم السبت ال29 من شهر رمضان لهذا العام 1446ه    حرائق كوريا الجنوبية ..الأضخم على الإطلاق في تاريخ البلاد    خدمة زوار بيت الله    مأدبة إفطار في بيت العمدة غيث    الذكاء الاصطناعي ومستقبل الإعلام السعودي    محادثات الرياض تعيد الثقة بين الأطراف وتفتح آفاق التعاون الدولي.. السعودية.. قلب مساعي السلام في الأزمة الروسية الأوكرانية    الإدارة الذاتية الكردية تنفي الاتفاق مع دمشق لتسليم آبار النفط    نائب أمير مكة يطلع على خطط إدارة الحشود والجاهزية لحج 1446ه    إحياء الموائد الرمضانية في أملج    السفارة السعودية في موريتانيا تفطّر الصائمين السودانيين على حدود مالي    بحضور قناصل ورجال أعمال.. إفطار الناقور بالأهازيج الرمضانية    النفط يصعد والذهب يترقب تداعيات الرسوم    سوزان تستكمل مجلدها الثاني «أطياف الحرمين»    تحدٍ يصيب روسياً بفشل كلوي    ثمانية أعوام من الإنجاز والعطاء في ظل رؤية سمو ولي العهد    إطلاق مبادرة "سند الأبطال" لدعم المصابين وذوي الشهداء    المستشار، ابن دحباش يُكمل بناء جامع الفرعة    أنامل وطنية تبهر زوار جدة التاريخية    مطبخ صحي للوقاية من السرطان    حملة تثقيفية للمحسن الصغير    حليب الإبل إرث الأجداد وخيار الصائمين    زعيم الشرق الأوسط    محمد بن سلمان.. سنوات من التحول والتمكين    عهد التمكين والتطور    ذكرى واستذكار الأساليب القيادية الملهمة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المثقفون وتصنيع الكراهية»... أبلسة ال«هُم» وطأفنة ال«نحن»
نشر في الحياة يوم 11 - 09 - 2012

المثقف الأنسني هو الذي يضع الإنسان في اعتباره كأعلى قيمة، ومن المناسب جداً بالنسبة إليه بحسب إدوارد سعيد «أن ينمي شعوره بالانتماء إلى عوالم متعدّدة وتراثات معقّدة ومتفاعلة، لأن مهمته لا تقتصر على أن يحتل موقعاً أو مكاناً، ولا أن ينتمي إلى مكان ما، بقدر ما يكون داخلياً وخارجياً إزاء الأفكار والقيم المتداولة التي هي قيد البحث سواء في مجتمعه أم في مجتمع الآخرين». ولكن يبدو أن المثقفين غالباً ما يفشلون في الوصول إلى ذلك المرقى، بما يكشفونه من وهن في المنعطفات التاريخية، إذ لا يمكنهم العيش داخل ما يسميه «ذلك المزيج الذي لا مفرّ منه من الانتماء والانفصال والاستقبال والمقاومة». فبمجرد انفجار أي حدث سياسي أو اجتماعي يتحول معظمهم إلى عوام، ويتصرفون بغوغائية محيّرة وعنصرية منفّرة.
ونتيجة ذلك الارتكاس من المثقفين بمختلف انتماءاتهم الدينية والليبرالية والمدنية، الذين يشكلون مضخة توجيهية للآراء والمواقف، يبدأ المجتمع في الانشطار العمودي بسرعة خاطفة، إذ يتم التباعد بين أطيافه وفق ذرائع مختلفة، لتنبثق ترسمية الكراهية الأزلية بين ال«هم» وال«نحن». وقد بدا هذا المشهد صادماً ومحزناً إثر الخضات التي حركت اللحظة المتخثرة في العالم العربي، وألقت بظلالها على مجمل المشهد الحياتي. وما زالت تداعيات ذلك الانقسام حاضرة ومفزعة، إذ أبدت شرائح عريضة من الأقليات حال من التوجس إزاء الأكثرية، فيما مارس بعض الموهومين بغلبة الأكثرية ضروباً من استفزاز الأقليات والعزف النشاز على نغمة الولاء، وكأن إثبات المواطنة والاستقامة لا يتحقق إلا بتضئيل الآخرين، وتحويلهم إلى أعداء.
ولم يتوقف الأمر عند حافة الاشتباك المذهبي والفئوي والمناطقي، بل تجاوزه البعض إلى التلاسن، بين من يعتقدون بحقهم في الإعلان عن ليبراليتهم، وبين من يحرمّون حتى مجرد تعليق هذه اللافتة إلى حد تخوين الجسم الإعلامي وتأثيم القائمين عليه، إلى درجة الاحتراب داخل الفئة الواحدة، فيما يبدو إيقاظاً مبيّتاً، وغير مسؤول لخلايا الكراهية الضامرة، وفيما يشبه الاستنفار العام أو الاستنحار الجماعي، وكأن معظم الذين ذهبوا إلى جولات الحوار الوطني ضمن مشروع خادم الحرمين الشريفين، لتمتين اللحمة الاجتماعية وتجذير الحس الوطني، وتشييد أساس الوئام المدني، لم يفهموا ذلك المنبر إلا كدعوة للرقص على الشعارات في حفلة تنكرية، إذ سرعان ما خلعوا أقنعتهم عند أول منعطف، ليعلنوا حربهم المضادة.
ولا شك أن هذا الانفلات الشعوري يؤكّد أن الذين يديرونه قد أسلموا رؤوسهم للشيطان، ويكشف في ما يكشف عن جانب مهم بما يسميه توماس هوبز «الطبيعة الشريرة للإنسان» وانجبال النفس البشرية في مكمن من مكامنها الخفية على الكراهية، الأمر الذي يسهّل على ال«نحن» مهمة تنميط ال«هم» إعلامياً، وتصنيع الكراهية من ذات المنظور بالنظر إلى كون الصور النمطية أكثر القوالب قابلية للشحن، ونتيجة اعتقاد راسخ عند الفرد بكون الجماعة التي ينتمي إليها تمثل النموذج المعياري للحياة بموجب مراكمات ثقافية ونفسية وتاريخية مغلوطة، هي للأوهام أقرب منها للحقائق. وعليه تصاعدت نزعة الخوف من (الآخر) وشيطنته، في مقابل انسحاب معلن للداخل، إذ شكلت هذه الأحداث فرصة للعودة إلى الصفر والعيش في حالة من اللاتوازن.
ويبدو أن هذا الحدث الآخذ في التدحرج دفع الجماعات للتخندق والانغلاق على ذاتها، وتوسيع الهوة في ما بينها، فكل جماعة ازدادت التصاقاً بدائرة ال«نحن» لصد أية محاولة من ال(هم) للاقتراب والتواصل. أو هذا ما يبدو عليه المشهد حتى هذه اللحظة، إذ التباري في محاكمة منظومة (الآخر) وقياس حجمها، الوازن في الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية.
وهو أمر طبيعي حتى في الظروف الاعتيادية التي تخلو من التجابه، فالفرد يتلقى تربيته من خلال وكلائه الاجتماعيين في كهف الجماعة، ويتم تثقيفه وفق خصائص «الغيتو»، وعليه يتعبأ برفض الآخرين إلى حد كراهيتهم أحياناً، وعليه يتعامل مع العالم من خلال مركزية فارطة في النفي والإقصاء، نتيجة ما تسلّح به من أحكام مسبقة، وركام هائل من الأفكار المشوشة، والمشاعر الانفعالية المضطربة.
على هذا الأساس المرضي، تنتعش الآن في المشهد الحياتي متوالية من الهويات العمياء، التي تقوم على بغض الآخرين، والتزوّد بوقود الكراهية، وتحفّها حالات من عدم الشعور بالرضا والدونية والمظلومية والإحباط والتعالي والنرجسية، الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى ارتكاس الذوات الفاعلة في الفضاء المدني، والعودة الانتقائية إلى التاريخ لتعضيد ممكنات الحاضر، ضد جماعات ال«هم» التي لا تتوافق مع معتقدات ال«نحن». وكأن الكراهية معطى إنساني يصعب الفرار منه، وليس مجرد اختبار، طالما نفرت منه الديانات والثقافات عبر التاريخ، وشجعت على التبرؤ منه ومقاومته كشرط للصلاح الإنساني، سواء انطلقت تلك النزعة من منطلقات دينية أم قومية أم عرقية أم طائفية أم فئوية أم مناطقية.
إن إطلاق حكم (القيمة) إزاء الآخر هو أسهل الحلول للتخفّف من الصراع الداخلي لل«أنا»، الذي يشكل بدوره تجربة وجودية، كما أن البحث عن اختلافات تكوينية أو ثقافية بين ال«نحن» وال«هم» يبدو ضرباً من العبث الموجب للعداء والافتراق.
أما الحس الحضاري بحسب هنتنغتون فهو أرقى مستويات الهوية الثقافية، إذ يتبلور من مفاعلة الخصائص الثقافية، وإعادة تركيبها داخل سياق سلمي وتكاملي، وعليه فإن الأحداث الكبرى هي التي تفصح عن منسوب تعافي الذات والمجتمعات من رذائل الكراهية، إذ تشكل بيئة تفاعلية كاشفة عما تستبطنه الجماعات إزاء بعضها، كما تحرك المتكلس من الأحاسيس التي تم وأدها موقتاً بالتثاقف الصوري والتسامي المزيف.
* ناقد سعودي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.