المثقف الأنسني هو الذي يضع الإنسان في اعتباره كأعلى قيمة، ومن المناسب جداً بالنسبة إليه بحسب إدوارد سعيد «أن ينمي شعوره بالانتماء إلى عوالم متعدّدة وتراثات معقّدة ومتفاعلة، لأن مهمته لا تقتصر على أن يحتل موقعاً أو مكاناً، ولا أن ينتمي إلى مكان ما، بقدر ما يكون داخلياً وخارجياً إزاء الأفكار والقيم المتداولة التي هي قيد البحث سواء في مجتمعه أم في مجتمع الآخرين». ولكن يبدو أن المثقفين غالباً ما يفشلون في الوصول إلى ذلك المرقى، بما يكشفونه من وهن في المنعطفات التاريخية، إذ لا يمكنهم العيش داخل ما يسميه «ذلك المزيج الذي لا مفرّ منه من الانتماء والانفصال والاستقبال والمقاومة». فبمجرد انفجار أي حدث سياسي أو اجتماعي يتحول معظمهم إلى عوام، ويتصرفون بغوغائية محيّرة وعنصرية منفّرة. ونتيجة ذلك الارتكاس من المثقفين بمختلف انتماءاتهم الدينية والليبرالية والمدنية، الذين يشكلون مضخة توجيهية للآراء والمواقف، يبدأ المجتمع في الانشطار العمودي بسرعة خاطفة، إذ يتم التباعد بين أطيافه وفق ذرائع مختلفة، لتنبثق ترسمية الكراهية الأزلية بين ال«هم» وال«نحن». وقد بدا هذا المشهد صادماً ومحزناً إثر الخضات التي حركت اللحظة المتخثرة في العالم العربي، وألقت بظلالها على مجمل المشهد الحياتي. وما زالت تداعيات ذلك الانقسام حاضرة ومفزعة، إذ أبدت شرائح عريضة من الأقليات حال من التوجس إزاء الأكثرية، فيما مارس بعض الموهومين بغلبة الأكثرية ضروباً من استفزاز الأقليات والعزف النشاز على نغمة الولاء، وكأن إثبات المواطنة والاستقامة لا يتحقق إلا بتضئيل الآخرين، وتحويلهم إلى أعداء. ولم يتوقف الأمر عند حافة الاشتباك المذهبي والفئوي والمناطقي، بل تجاوزه البعض إلى التلاسن، بين من يعتقدون بحقهم في الإعلان عن ليبراليتهم، وبين من يحرمّون حتى مجرد تعليق هذه اللافتة إلى حد تخوين الجسم الإعلامي وتأثيم القائمين عليه، إلى درجة الاحتراب داخل الفئة الواحدة، فيما يبدو إيقاظاً مبيّتاً، وغير مسؤول لخلايا الكراهية الضامرة، وفيما يشبه الاستنفار العام أو الاستنحار الجماعي، وكأن معظم الذين ذهبوا إلى جولات الحوار الوطني ضمن مشروع خادم الحرمين الشريفين، لتمتين اللحمة الاجتماعية وتجذير الحس الوطني، وتشييد أساس الوئام المدني، لم يفهموا ذلك المنبر إلا كدعوة للرقص على الشعارات في حفلة تنكرية، إذ سرعان ما خلعوا أقنعتهم عند أول منعطف، ليعلنوا حربهم المضادة. ولا شك أن هذا الانفلات الشعوري يؤكّد أن الذين يديرونه قد أسلموا رؤوسهم للشيطان، ويكشف في ما يكشف عن جانب مهم بما يسميه توماس هوبز «الطبيعة الشريرة للإنسان» وانجبال النفس البشرية في مكمن من مكامنها الخفية على الكراهية، الأمر الذي يسهّل على ال«نحن» مهمة تنميط ال«هم» إعلامياً، وتصنيع الكراهية من ذات المنظور بالنظر إلى كون الصور النمطية أكثر القوالب قابلية للشحن، ونتيجة اعتقاد راسخ عند الفرد بكون الجماعة التي ينتمي إليها تمثل النموذج المعياري للحياة بموجب مراكمات ثقافية ونفسية وتاريخية مغلوطة، هي للأوهام أقرب منها للحقائق. وعليه تصاعدت نزعة الخوف من (الآخر) وشيطنته، في مقابل انسحاب معلن للداخل، إذ شكلت هذه الأحداث فرصة للعودة إلى الصفر والعيش في حالة من اللاتوازن. ويبدو أن هذا الحدث الآخذ في التدحرج دفع الجماعات للتخندق والانغلاق على ذاتها، وتوسيع الهوة في ما بينها، فكل جماعة ازدادت التصاقاً بدائرة ال«نحن» لصد أية محاولة من ال(هم) للاقتراب والتواصل. أو هذا ما يبدو عليه المشهد حتى هذه اللحظة، إذ التباري في محاكمة منظومة (الآخر) وقياس حجمها، الوازن في الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية. وهو أمر طبيعي حتى في الظروف الاعتيادية التي تخلو من التجابه، فالفرد يتلقى تربيته من خلال وكلائه الاجتماعيين في كهف الجماعة، ويتم تثقيفه وفق خصائص «الغيتو»، وعليه يتعبأ برفض الآخرين إلى حد كراهيتهم أحياناً، وعليه يتعامل مع العالم من خلال مركزية فارطة في النفي والإقصاء، نتيجة ما تسلّح به من أحكام مسبقة، وركام هائل من الأفكار المشوشة، والمشاعر الانفعالية المضطربة. على هذا الأساس المرضي، تنتعش الآن في المشهد الحياتي متوالية من الهويات العمياء، التي تقوم على بغض الآخرين، والتزوّد بوقود الكراهية، وتحفّها حالات من عدم الشعور بالرضا والدونية والمظلومية والإحباط والتعالي والنرجسية، الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى ارتكاس الذوات الفاعلة في الفضاء المدني، والعودة الانتقائية إلى التاريخ لتعضيد ممكنات الحاضر، ضد جماعات ال«هم» التي لا تتوافق مع معتقدات ال«نحن». وكأن الكراهية معطى إنساني يصعب الفرار منه، وليس مجرد اختبار، طالما نفرت منه الديانات والثقافات عبر التاريخ، وشجعت على التبرؤ منه ومقاومته كشرط للصلاح الإنساني، سواء انطلقت تلك النزعة من منطلقات دينية أم قومية أم عرقية أم طائفية أم فئوية أم مناطقية. إن إطلاق حكم (القيمة) إزاء الآخر هو أسهل الحلول للتخفّف من الصراع الداخلي لل«أنا»، الذي يشكل بدوره تجربة وجودية، كما أن البحث عن اختلافات تكوينية أو ثقافية بين ال«نحن» وال«هم» يبدو ضرباً من العبث الموجب للعداء والافتراق. أما الحس الحضاري بحسب هنتنغتون فهو أرقى مستويات الهوية الثقافية، إذ يتبلور من مفاعلة الخصائص الثقافية، وإعادة تركيبها داخل سياق سلمي وتكاملي، وعليه فإن الأحداث الكبرى هي التي تفصح عن منسوب تعافي الذات والمجتمعات من رذائل الكراهية، إذ تشكل بيئة تفاعلية كاشفة عما تستبطنه الجماعات إزاء بعضها، كما تحرك المتكلس من الأحاسيس التي تم وأدها موقتاً بالتثاقف الصوري والتسامي المزيف. * ناقد سعودي.