في العام 1939 مات في باريس رجل بالكاد تعرّف عليه في أيامه الأخيرة أحد. كان مدمناً على الكحول، شريداً، فقيراً وبائساً، تماماً مثلما كان قد صار حال الامبراطورية التي أمضى آخر سنوات حياته يحنّ اليها، الامبراطورية النمسوية - الهنغارية. ولئن لم يقيض لذلك الرجل من يؤبّنه، فور موته على الأقل، كما كان يجدر به أن يؤبّن. فإنه هو كان، في رواية واحدة له على الأقل، قد أبّن تلك الامبراطورية، وكتب عن نهاياتها بعض أروع الصفحات الأدبية - التاريخية التي خطّها قلم أديب خلال النصف الأول من القرن العشرين. اسم الرجل جوزف روث. أما الرواية التي ستخلد اسمه، ولكن فقط بعد سنوات من موته فحملت عنواناً لم يكن من عنده بل كان مستعاراً من عند الموسيقي النمسوي الشهير يوهان شتراوس: «مارش راديتسكي». وهنا يمكننا ان نقول إن اختيار العنوان في حد ذاته كان بؤساً آخر يضاف الى ضروب بؤس جوزف روث، إذ مهما فعل كان من الواضح ان اسم مقطوعة شتراوس سيظل طاغياً على اسم روايته. ومع هذا يمكننا أن نقرّ مع معظم مؤرخي الأدب في القرن العشرين بأن «مارش راديتسكي» - الرواية - أتت واحدة من أهم الأعمال الأدبية في زمنها، ونصاً تقفز الكلمات والعبارات فيه قفزاً لتعبّر عن عالم ومرحلة ومناخ، وعن موت محتم. الموت هنا هو، بالطبع، موت تلك الامبراطورية التي كانت من أكبر وأخطر ما في العالم خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر على الأقل، والامبراطورية التي تقول خرافات التاريخ، أن بضع رصاصات أطلقت في سراييفو ذات يوم صيفي من العام 1914، من قبل طالب صربي، لتقتل «ارشيدوق النمسا»، كانت كافية لإزالتها من الوجود. والحقيقة ان رواية جوزف روث تأتي لتفسّر لنا كيف أن هذا القول كان تخريفاً في تخريف، إذ ان تلك الرصاصات لم تكن في حقيقتها سوى «رصاصة الرحمة» التي أتت لتقضي على جسد كان المرض ينخره. ونعرف ان هذا الأمر كانت تؤكّده كل الفنون التي عرفت ازدهاراً في فيينا السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر. إذ منذ وقت مبكر، أدرك أدباء النمسا وفنانوها، ان الامبراطورية تحتضر وأن عاصمتها فيينا تموت، في ظل ما دعاه واحد من كتاب تلك المرحلة «الكابوس السعيد». وحسبنا أن نقرأ روايات تلك الحقبة ولا سيما اعمال شتيفن تزفايغ وآرثر شنيتزلر، ونشاهد لوحات شليغل وكليمت وكوكوشكا، ونسمع موسيقى ماهلر وآلبن برغ وانطون فيبرن، ونتفحص كتب الفلسفة وعلم النفس التي ازدهرت خلال تلك المرحلة كلها بالتزامن مع ولادة التحليل النفسي على يد سيغموند فرويد وتلاميذه وخصومه، لندرك هذا الواقع. ومن هنا يمكن الانتقال للقول إن «مارش راديتسكي» كرواية، هي واحد من أهم الآثار الأدبية التي سجّلت ذلك كله وأرخت له على طريقتها الخاصة. ولئن كان جوزف روث أفرد لرصاصات سراييفو مكاناً أساسياً في روايته هذه، فإنه برهن في الوقت نفسه على أن الرصاصات كانت «القشة التي قصمت ظهر البعير» - وفق ما يقول المثل العربي الطريف - لا أكثر. ولكن ما هو دور قطعة شتراوس الموسيقية في ذلك كله؟ ببساطة، يقول مؤرخو الثقافة في فيينا في ذلك الحين أن «مارش راديتسكي» - القطعة الموسيقية - كان من آخر تجليات العظمة الامبراطورية، عند ولادة واحد من «أبطال» الرواية الثلاثة، أي المدعو شارل - جوزف... فهو منذ طفولته المبكرة ترعرع على الاستماع الى ذلك المارش وعلى رصد عظمة بلاده من خلاله... لكن شارل - جوزف نفسه سيكون هو، وبالتدريج، عبر حياته ومساره، الشاهد على الانهيار الكبير... ولكن بعد أن يقدم إلينا، خلال سلوكه درب الشباب، ودائماً من خلال إيمانه ب «مارش راديتسكي» كنموذج على جيل العاملين في الدولة المؤمنين بها وبالامبراطور... لقد كانوا عشرات الألوف من عسكريين ومدنيين ومسؤولين وموظفين صغار، يتعلمون منذ صغرهم طاعة الدولة وتبجيل الامبراطور... هذه الطاعة والتبجيل كانا - وفق مؤرخي المرحلة - خط الحدود الواضح لعالمهم، لا يتجاوزونه وإلا فسيضيعون. وإذا كان جوزف روث يقول لنا في روايته إن كل شيء هنا يبدأ مع شارل - جوزف، فإنه في الوقت نفسه يحدد لنا بداية شارل - جوزف، قبل ولادته بكثير: ان البداية تكون مع رفع الامبراطور لمقام جد بطلنا، وكان واحداً من القادة المجيدين في معركة سولفيرينو، الى مرتبة النبلاء. ومنذ تلك اللحظة وجد الجد ان من حقّه أن يقرر هو مسار ابنه (والد شارل - جوزف) المهني... فاختار له أن يكون موظفاً مدنياً في الدولة ليصبح محافظاً لاحقاً... وهذا بدوره قرر مصير ابنه العسكري. وهكذا «راح كل واحد يتبع الخط الذي رسم له». ولكن ليس من دون احتجاجات عملية وخروقات بعضها واعٍ وبعضها غير واعٍ. فالجد مثلاً، على رغم مآثره في سولفيرنو، كان يرفض هالات البطولة الكاذبة التي احيطت بها تلك المآثر. أما الابن - المحافظ - فكان قد صار في موقع يمكّنه من أن يلاحظ أن الامبراطورية قد شارفت على نهايتها... هذه النهاية صارت، بالنسبة اليه، حتمية لا مهرب منها. كل ما في الأمر ان في إمكانه أن يتساءل متى وكيف ستكون تلك النهاية. وهذه النهاية سيكون الحفيد (شارل - جوزف) كما أسلفنا، الشاهد عليها. وستكون علامته في ذلك اقدامه من دون سابق انذار على الاستقالة من مهنته العسكرية والتحول الى المجتمع المدني ليعمل مفتشاً في التدريس. ونحن من خلال تغيّرات شارل - جوزف سنرصد القدوم، البطيء أول الأمر إنما المؤكد، لنهاية الامبراطورية، ولا سيما في تصرفات كل أولئك الموظفين النموذجيين، الذين سنلاحظ بالتدريج فقدانهم الثقة بأنفسهم وبالدولة، وارتباكهم في تصرفاتهم، وكذلك في العبارات التي راح يطلقها أكثر وأكثر كل أولئك المحيطين بالموظفين، معلقين على أمور كانت العين تخطئها قبل ذلك. اما فرص الرصد الأكبر والأهم لذلك كله، فلاحت في آخر ثكنة خدم فيها شارل - جوزف حين كان، بعد، عسكرياً. فهي تقع في بلدة «ضائعة عند حدود الأقاليم الشرقية للامبراطورية». هناك، وسط السأم العام والخوف المتزايد، ها هم الضباط يدمرون أنفسهم في لعب القمار... وها هم الجنود يهربون من الخدمة العسكرية واحداً بعد الآخر ليعودوا الى قراهم وضياعهم. أما العمال الذين بدأت أفكار الاشتراكية - الديموقراطية تصل اليهم، فها هم يعرفون أول ضروب تمرّدهم والاضرابات. وفي وسط ذلك المناخ كله، يأتي الإعلان عن مقتل الأرشيدوق في سراييفو. صحيح انه يكون له فعل الصاعقة، غير انه ضمن منطق الرواية يبدو وكأنه من تحصيل الحاصل... وكأنه النهاية المنطقية لكل ما وصفه لنا جوزف روث من أحداث. خصوصاً انه يأتي وسط احتفالات صاخبة لا يفوت المراقب المحايد أن يلمح من خلال وجوه ونظرات المشاركين فيها، موتاً ونهاية ورعباً. ولاحقاً إذ يخوض الضباط والجنود الحرب، يبدو واضحاً لنا انهم انما يخوضونها من دون أدنى حماسة. هكذا، إذاً، على هذا النحو، صوّر جوزف روث موت ذلك العالم القديم، وإنما من دون أن يصور ولادة عالم جديد. والحال ان الرجل الذي كتب هذه الرواية في العام 1932، أي قبل موته بسبع سنوات، كان من شأنه ان يصوّر تلك الولادة لو أنه كتبها عشرة أعوام قبل ذلك. فجوزف روث (1894 - 1939) كان سابقاً، ذا أفكار متحمسة للنزعة الاشتراكية، بل حتى لنوع أممي من الاشتراكية. لكنه حين كتب «مارش راديتسكي» كان قد صار من انصار عودة آل هابسبرغ الى الحكم، وهو عبّر صراحة عن تلك النزعة من خلال رواية تالية كتبها كتتمة ل «مارش راديتسكي» لكنها لم تلق رواجاً كبيراً عنوانها «سجل الكبوشيين». وروث الذي بدأ حياته صحافياً متحمساً للأفكار التقدمية، كتب روايات عدة أخرى من بينها «أوتيل سافواي» و «هروب بلا نهاية». [email protected] جوزف روث