قليلةٌ هي الدراسات العربية التي أُنجزت في موضوع الشرعية السياسية ومشكلاتها الكبرى في الدولة والسلطة والنظام السياسي في البلاد العربية المعاصرة: مصادرها المختلفة، آليات تجديدها، أزْماتها الصامتة الانفجارية، مواردها الاجتماعية والسياسية والثقافية، نُظُم اشتغالها الإيديولوجية والأمنية، دور الدين في بنائها أو في تأزيمها، ناهيك بمسائل شديدة الاتصال مثل أدواء النخب والطبقات الاجتماعية (الطبقة الوسطى بخاصة)، ودور العوامل الاقتصادية والعوامل الخارجية في تقرير صورة تلك الشرعية... الخ. كان رضوان السيد من أوائل من شُغِل، من الباحثين العرب، بمسألة الشرعية والمشروعية في المجال السياسي الإسلامي الكلاسيكي («الوسيط»)، ونشر في الموضوع دراسات عدّة لا تزال مرجعية في بابها. لكن القليل من الباحثين جاراهُ في الاهتمام بالمسألة عينها في نطاق المجال السياسي العربي المعاصر، ولا نعرف منهم إلاّ سعد الدين إبراهيم وغسان سلامة اللذين نشرا في الموضوع دراستين تأسيسيتين، لا تزال فائدتهما عظيمة رغم انصرام حقبة طويلة، نسبياً، على نشرهما. تقتضينا الأمانة أن نعترف بفضل مساهمات أخرى، تناولت مسألة الدولة - والسلطة - في الوطن العربي من منظور تحليلي - نقدي لأزمة التكوين والاشتغال والتطور، وذلك ما يَصْدق على كتابات عبد الله العروي، وبرهان غليون، وخلدون حسن النقيب مثلاً، لكن هذه المساهمات لامسَتْ موضوع الشرعية من دون أن تتناوله التناول المباشر الذي تتميّز به المسألة ممّا يحيط بها ويتشابك معها من مسائل نظير. والحق أن هذه ثغرة فكرية كبيرة في الفكر العربي تحتاج إلى جَهْد علميّ يَسُدّها، أكان ذلك في مجال العلوم السياسية أو في مجال علم الاجتماع وعلم الاجتماع السياسي. ويزيد أهمية إلى حاجتنا الفكرية الملحاحة إلى توفير دراسات متخصصة ورصينة، لمسألة الشرعية السياسية، في البلاد العربية المعاصرة، أن إفادتنا العلمية من البحوث والدراسات الغربية في الموضوع، قليلة، على رغم أن تراكمها الفكريّ غنيّ جدّاً، وأثبت نجاعته في تحليل الاجتماع السياسي، في المجتمعات الغربية، منذ بدايات القرن العشرين، أي منذ دشَّن ماكس فيبر التفكير، بأدوات علم السياسة وعلم الاجتماع، في مسألة الشرعية. لكن أكثر ما يفرض حاجتنا إلى هذا التفكير في المسألة هو الواقع السياسي العربي نفسه، والضغط الكثيف لمشكلة أزمة الشرعية فيه: في الدولة، والسلطة والنظام السياسي. وإذا كانت وقائع التحوّلات الجارية، في الوطن العربي، منذ انطلاق موسم الانتفاضات والحركات الاحتجاجية، في بعض بلدانه، في خواتيم العام 2010، قد كشفت عن شيء في بُنى الاجتماع السياسي العربي، والعلاقات الحاكمة تلك البُنى، فإن أظْهَرَ ما كشفت عنه هو تلك الدرجة العليا من التأزّم الشيد في تلك البُنى، والذي يعود القسمُ الأعظم من أسبابه إلى تلك الأزمة العميقة التي تستبد بالشرعية السياسية ومصادرها. والأزمة هذه مركبَّة: أزمة شرعية نظامٍ سياسي أجّجت الفروق بين نماذجه المختلفة، واجتمعت هذه على مضمونه الاستبدادي الواحد، وأزمة «الدولة الوطنية» التي لم تنجح، حتى الآن، وبعد عقود ممتدة من ميلادها، في أن تبرّر شرعيتها، على الأقل في نظر قسم كبير من «مواطنيها»، دون أن نحتسب - في جمله عوامل أزمة شرعيتها - ضغط العولمة عليها، وإفقارها التدريجي من أخصّ خصائص الشرعية: السيادة الوطنية. وقد يكون من أعْوص مشكلات شرعية الاجتماع السياسي العربي - دولةً ونظاماً سياسيّاً - حالة التماهي، أو التداخل التلفيقي، بين الصعيد العام، الجامع، المجرَّد والمتعالي، الذي تمثله الدولة، وبين الصعيد السياسي المفتوح على المباينة في الرأي، والمنافسة في المصالح، الذي تمثله السلطة والنظام السياسي! فالغالب على مجتمعات العرب السياسية أن يختزل النظامُ فيها الدولة، وان لا تجد الدولةُ من تجسيدٍ مؤسَّسيّ وماديّ لها غيرَ النظام الحاكم! وتبدأ المشكلة من هذا الباب، إذ تتحوَّل كلّ هزّةٍ تَعْرِض للنظام السياسيّ زلزالاً يهدد أركان الدولة بالتداعي، وتصبحُ الثورةُ على النظام القائم شكلاً آخر من انقسام الدولة والكيان، ومناسبةً لإخراج ما في جوف البنى الاجتماعية من انقسامات إلى سطح «المجال السياسي»! لقد تغذّت أزمة الشرعية السياسية، في السنوات الأخيرة، بدخول عاملٍ «جديد» على «خطّ» تلك الأزمة، هو استفحال حال الاقتران بين السياسيّ والدينيّ في المجتمعات العربية، وفي الحياة السياسية فيها على نحوٍ خاص. ولا يتعلق الأمر، في هذا الاستفحال، بما شهدناه من صعودٍ متعاظم لظاهرة «الإسلام الحزبي»، منذ سبعينات القرن العشرين، وما ألقاه ذلك الصعود من أسئلة قلقة حول مصير الاجتماع السياسي ومدينة الدولة والسلطة، في البلاد العربية، في ضوء المطالبات المتزايدة بأسلمة الدولة وفرض تطبيق الشريعة الإسلامية، ولا هو يتعلق، فقط، حتى بميلاد «الإسلام الجهادي»، ودخوله معترك العنف السياسي والدموي، منذ مطالع تسعينات القرن الماضي، وإنما هو يتعلق أيضاً - وأساساً - بوصول قوى من هذا «الإسلام الحزبي» إلى السلطة في عِدَّد من البلدان العربية منذ نهاية العام 2011. وفي الظن أن أزمة شرعية الدولة والسلطة ستتزايد، في المرحلة القادمة، بدخول هذا العامل الجديد فيها، وستتخذ لها أشكالاً وعناوين جديدة، وربما تُسفِر عن تناقضات وصراعات من نوع آخر. وإذا كان لهذا الطور الجديد من تأزّم الشرعية السياسية أن يدُلَّ على شيء، فإنما هو يدلّ على أنه ثمرة من ثمار أزمة «الدولة الوطنية» التي عجزت، منذ لحظة التكوين والميلاد، وطوال حقبة التطور، عن أن تجيب عن معضلة شرعيتها، وعن إنتاج مجال سياسيّ عصري تُمارَسُ فيه السياسة، بقواعدها المتعارَف عليها، كمنافسة مدنية ومواطنية، وبمفرداتها النسبية! ومن أزمة هذه «الدولة الوطنية» تتغذى سائر الأزْمات الفرعية التي أومأنا إليها: أزمة السلطة والنظام السياسي، وأزمة المجال السياسي المستباح لغير السياسة، وأزمة التداخل التلفيقي بين الدينيّ والسياسيّ. لكن هذا الطور (الجديد) من تأزّم الشرعية السياسية قد يكون أكثر أطوار ذلك التأزم حدّة، فهو يُدخل في نسيج تلك الشرعية بُعداً ظلّ فرعياً فيها، منذ قيام الدولة «الحديثة» هو «الشرعية الدينية»، أو قُلْ - للدقة - التسويغ الديني للشرعية السياسية. والمشكلة إنما تبدأ حين ندرك أن «الشرعية الدينية» ليست واحدة عند جميع القائلين بها كما هي الشرعية السياسية واحدة أو تُقارِب!