وإذا كانت هذه الحساسية التقليدية قدوقفت في وجهة قراءة المكان قراءة غير تقليدية، فإن (الزمان - الحدث التاريخي) سيواجه الشطر الأكبر والأخطر من العقبات الكأداء. وفي هذا المنحى، لن يكون التصدي والرفض من طائفة محددة - كما في العنصر السابق (المكاني) - بل من أكثر الطوائف، إذ هي - جميعاً - يطالها التشريح القرائي. يواجه الباحث في الفكر الديني عقبات كثيرة، تقف دون تحقيقه الحد الادنى من الموضوعية العلمية التي يطالب بها في مستويات الكتابة كافة، ولا يعفى منها؛ جراء تلميحه - أو تصريحه! - بما يواجه من تضاؤل مساحات المباح له من ميادين البحث العلمي في هذا الموضوع خاصة. خطورة الموضوع؛ تفرض عكس ما هو متوقع من اعذار للمقصر في علميته، أي انها تفرض مستوى غير منقوص من العلمية ومن الصراحة في آن؛ ليصبح من العبث القفز - صمتاً - على مراحل حاسمة من مراحل التشكل النظري للفكر الديني؛ بأي مبرر كان. دراسة طبيعة الفكر الديني، وتتبع مراحل تشكله في فتراته الحاسمة، تواجه الرفض في مجتمعات تقليدية، لاتزال تستعصي على العلمية، وتتماهى مع الأسطرة، بل والخرافة، بوعي منها بهذا التماهي وما يتضمنه من مدلولات في الفكر والواقع، أو بلا وعي. وهذا الرفض اما أن يكون رفضاً للدراسة ذاتها، أي للمراجعة الفاحصة، باعتبارها تتناول ميداناً مقدساً لا يجوز الاقتراب منه، واما أن يكون رفضاً للآلية (المنهج النقدي) التي تجري مقاربة الموضوع بواسطتها. وفي أكثر الأحيان يجتمع السببان؛ كمبرر للرفض. إن رفض الآليات المنهجية الحديثة التي تمثل مرحلة متقدمة من مراحل نضوج الفكر الإنساني؛ يعني - بالضرورة - أن يقف الفكر الديني خارج العصر، يقف خارج العصر؛ في الوقت الذي يدخل فيه من خلال (الشخصي - الذاتي - الوجداني). العصرنة اليوم لم تعد خياراً، وانما أصبحت شرطاً للحياة (شرطاً نوعياً). إن الحياة يراد لها أن تتمثل الديني وأن تتخلق بوحيه، ولا يتم هذا إلا بعصرنة الفكر الديني ابتداءً؛ لأنه هو الحاسم فينا. وعصرنة الفكر الديني لا تتم إلا بواسطة الانخراط الفعال في منظومة الفكر المعاصر، بكل اصرار وايجابية؛ لنخرج من رحلة الاجترار التاريخي. إن مما يعقد هذا الاشكال الطويل الذي يؤزم الفكر الإسلامي المعاصر منذ أمد ولايزال، أن هذا الفكر تشكل بفعل الحدث التاريخي، أكثر مما تشكل الحدث التاريخي بفعل هذا الفكر. ليس هذا الحكم التقريبي الغاء للبعد الجدلي، بل مجرد اشارة إلى الروح العام الذي صنع المعطى الفكري - ومن ثم الواقعي - في واقعنا الإسلامي المعاصر خاصة. الإنسان العربي - وهو الأول في رحلة الانبثاق الديني - وجداني من ناحية، ومتحيز - تصوراً وعقلاً - ضد الكلي والتركيبي (الفلسفي - العقلاني - العلمي) من ناحية اخرى. هذا يعني أن الحديث التاريخي كان رهين الوجدان قبل أن يكون رهين الرؤية الفكرية، حتى وإن كانت هذه الرؤية دينية خالصة، أي مشحونة بالنفس الوجداني. لا يضير أن يكون الوجداني حاضراً قوة في الديني، بل هذا من مقوماته الأساسية كدين، وانما الذي يضير منظومة الفكر، ويربك المسيرة الحضارية لإنسان هذا الدين، أن تتخلق التصورات بالحدث التاريخي، والذي ليس بالضرورة أن يكون من إيحاء الديني الخاص - الأولي. بالنظر إلى المكان الاول للتشكل الفكري، نجد أنه (الصحراء). والصحراء كفضاء مكاني للفعل، لابد وأن يكون مؤثراً فيه، ومن ثم مؤثراً في الفكري. من الصعب أن يكون المكان بريئاً، وأصعب أن يكون كذلك في الحالة الصحراوية الممعنة في تصحرها على نحو أخص. إذن، لم تتشكل الرؤية - إبان تشكلها الأول - في فضاء محايد؛ فتكون لها الأولوية، من حيث هي فكرة، وإنما كانت الأولوية للأشد ضراوة وعنفاً وقسوة وحدية، وهو الفضاء المكاني (الصحراء). لم تسهم الصحراء - كفضاء مؤثر في الرؤية - الحدث - الفكر - العقل الواعي واللاواعي - في صناعة اللبنات الأولى فحسب، وانما بقيت مهيمنة بهيمنة المد البشري ومواسم الهجرة التي لم تتوقف. وإذ يرى الجابري أن اللغة هي التي نقلت الصحراوية إلى الفكر وطبعته بطابعها، فإن اللغة - على أهميتها القصوى في هذا المجال - لم تتفرد بذلك. المد البشري - العربي (الحامل الأول للفكرالديني) بقي مؤثراً إلى وقت قريب في رؤى وتصورات الإنسان العربي (العربي لغة وثقافة)، كما يرى ذلك عالم الاجتماع العراقي: علي الوردي. علي الوردي ومحمد جابر الأنصاري - على فرق ما بين رؤيتيهما - يُحمّلان الصحراء وزر الحالة العربية الراهنة بكل ما فيها من تخلف وتشرذم وشتات. الصحراء عند الأنصاري عوائق جغرافية مباشرة ضد التحضر العربي، وعند الوردي أكثر من ذلك. عند الوردي تقف بقيمها اللاحضارية ضد قيم الحضارة، وتخلق انقساماً حاداً في الشخصية العربية المعاصرة، بحيث أزمتها في الماضي، ولاتزال تؤزمها إلى اليوم. وهو وإن كان حديثه عن العراقي خاصة، إلا انه تحليل سوسيولوجي، ينتظم الحالة العربية كافة، على تفاوت في الدرجة، يتحكم به القرب أو البعد من الصحراء المأهولة. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، ففي ظني أن المشكلة ليست في هذا التوصيف الصادق فحسب، وانما هي - أيضاً - في الموطن الآخر للعربي المهاجر. البيئة الحضرية التي صنع العربي من خلالها فكره الديني الذي سوف يوجهه طوال تاريخه لم تكن على شرط الصحراء - مكانياً - من جهة، كما لم تكن بريئة - ثقافياً - من جهة اخرى. انه مكان آخر مغاير للحالة الأولى، تلك الحالة التي يحمل العربي بين جنبيه الكثير من روحها ورؤاها الإسلامية وال (ما قبل إسلامية). وتتصاعد الأزمة - وجدانياً، ومن ثم فكرياً - حين يراد من البيئة الحضارية المغلوبة أن تكتب بكل تقديس واجلال، وأسطرة أيضاً! لذا، لم يكن من الغريب أن تستعصي مسيرة الكتابة (مرحلة التشكيل الفكري أو التدوين في تعبير الجابري) على الاحتواء؛ فتبرز الانحناءات القرائية التي تعبر عن هذا التأزم، ويبرز رد الفعل الصحراوي الذي يتصور ما سواه انحرافاً وضلالاً. ونتيجة لهذه الوضعية المتأزمة؛ يستمر الصحراوي الغازي بجيوشه وثقافته في محاولات محو التطورات النوعية التي تنال من صحراويته وقيمها، مستفيداً من طبيعة التلقي الشفهية المتشرذمة بحجم تشرذم العربي في الجغرافي، تلك الطبيعة التي صنعتها الصحراء في أبنائها من جهة، وفي أحفادها! من جهة اخرى. وسيبقى هؤلاء وهؤلاء هم الأوفياء لها في كل زمان ومكان!. ومع أن هذه الإضاءات العابرة على العنصر المكاني في هذا الطرح، ليست إلا اشارات مختصرة، هي أشبه بالتلميحات، فإنها تدل على أهمية البحث المفصّل في دور العنصر المكاني في صناعة الفكر الديني، منذ البداية وإلى هذه اللحظة الراهنة، وذلك بمقاربات منهجية تتوسل أكثر من حقل معرفي من حقول المعرفة الإنسانية. وهذا هو هدفنا في النهاية. وأزماتنا الراهنة التي تأخذ بخناقنا؛ تجعلنا نبحث عن أي قدر من الشجاعة ومن العلم؛ للقيام بمقاربات من هذا النوع، هذا النوع الذي يراد له أن يبقى خارج دائرة المفكر فيه؛ ليبقى الوعي الخرافي مهيمناً على مجمل الوعي الإسلامي. وإذا كانت هذه الحساسية التقليدية قدوقفت في وجهة قراءة المكان قراءة غير تقليدية، فإن (الزمان - الحدث التاريخي) سيواجه الشطر الأكبر والأخطر من العقبات الكأداء. وفي هذا المنحى، لن يكون التصدي والرفض من طائفة محددة - كما في العنصر السابق (المكاني) - بل من أكثر الطوائف، إذ هي - جميعاً - يطالها التشريح القرائي. إن قراءة (الزمان - الحدث التاريخي) لن يقف على تخوم الوقائع، بل سيعيد قراءة الأشخاص من خلال قراءة الفكرة أو العكس. ولا شيء يزعج البنى التقليدية الراسخة في الأعماق الوجدانية، سوى إعادة فحص الحدث التاريخي، والنظر إليه من خلال أبعاد اخرى غير التي اعتادت التقليدية أن تقدمه بها. مما يعني أن الأشخاص (الذوات المقدسة صراحة أو ضمناً) ستكون على المحك، ولن تبقى كما هي عليه من قبل في تراتبيتها التي تتغيا الفكرة - براجماتياً - في النهاية. الحدث الأبرز والأكثر حدية في التاريخ الإسلامي كان الصراع على السلطة، سواء كان صراعاً معلناً ومشخصاً أو كان صراعاً مضمراً من قبل القوى ذات النفوذ الاجتماعي والديني. جرى الحدث التاريخي، فيما يخص السلطة، على التراتبية المعروفة بالنسبة للخلفاء الراشدين - رضوان الله عليهم أجمعين-. ومع أنه - أي الترتيب التاريخي للخلفاء - كان حدثاً تاريخياً مجرداً، إلا أنه قد جرى تحميله معنى دينياً في تراتبية الأفضلية لهؤلاء. وهنا يظهر أثر الحدث التاريخي الواقعي - بأقصى حدود الواقعية الصريحة - على الفكري، وكيف جرى ضمه إلى مجمل المنظومة العقائدية، بوصفه معبراً عن مضمر عقائدي كان موجوداً قبل وجوده المتعين في الواقع. هذا من ناحية الترتيب المشخص. أما من حيث قراءة بعض الملامح التي تمايز بين الحدود الفاصلة بين دوائر الديني ودوائر المدني، فمما يتعذر ادراجه في هذا السياق. ولقد لاحظ المفكر الحر الأستاذ إبراهيم البليهي، أن ثلاثة من الخلفاء الراشدين - رضوان الله عليهم - كانت نهايتهم غير طبيعية (القتل)، كما لاحظ ذلك - أيضاً - المفكر الفرنسي - الجزائري الأصل -: محمد أركون. لقد أكد الأستاذ إبراهيم البليهي - في أكثر من مناسبة - أن هذه الظاهرة لا يمكن أن تكون مصادفة، ولا أن تؤخذ حدثاً عابراً. أي أنها مؤشر واقعي يدل على قلق حاد؛ إبان تشكل الفكر الإسلامي تشكلاً واقعياً. وهو ما سيرصد فيما بعد، لكن بالسكوت التام عن الدلالات التي تتضمنها هذه النهاية. زمن الفتنة الكبرى تم تناوله على نحو أكثر توسعاً (التوسع من حيث حرية البحث) داخل التيار المهيمن. وبما أنه يمثل مرحلة الاعلان الصريح والحاد عن كثير مما كان مكتوماً من قبل، فإن تناوله كان على ضوء المعلن والمصرح به من كل طائفة. كل طائفة أعلنت عن نفسها على نحو ما، ومن بعد كتبت تاريخها بصراحة. لكن، هناك السلطة - وهي الأهم هنا - ستكتب تاريخها الرسمي، وستبحث لها عن مضآن الشرعية، ولو من طريق غير مباشر، خاصة وأنها كانت بلا شرعية في اطار السياق الديني آنذاك. كل من تأمل التاريخ لابد انه قد لاحظ التغير النوعي والجذري في زمن ما بعد الراشدين. وهو تحول طبع الحياة الإسلامية فيما بعد، ولم يقتصر على فترة محدودة من تاريخ الإسلام. بداية بمعاوية بن أبي سفيان ومن تلاه، تحول الديني الرسمي - وهو الذي كتب له الانتصار في سياق موازين القوى الاجتماعية، لا الدينية - إلى دين شرعي!. وهنا المفارقة؛ إذ تحولت الايديولوجيا الرسمية التي تتوسل الاجتماعي بأكثر مما تتوسل الشرعي إلى أن تكون صاحبة اليد الطولى في تحديد الشرعي الذي سيأسر مسيرة الفكر الديني إلى حد كبير. مجرد حدث تاريخي!، أصبح يصوغ الرؤى والأفكار؛ لأنه وقع - وامتد - في الزمن الذي كان من الضروري فيه أن تصاغ؛ كحالة اضطرار حضاري، فرضها عليهم التوسع الامبراطوري آنذاك. مجرد حدث، ولكنه لم يكن عابراً، بل هيمن على فترة طويلة من زمن التخلق الفكري للأمة. وأصبحت المعارضة الفكرية المذهبية - جراء ذلك - معارضة للسلطة بالضرورة، والعكس صحيح وإن لم يكن على درجة عالية من الوضوح والاضطرار كما هو الحال في الأولى، أو لم يرد له أن يكون واضحاً! ومع أن الدعوة - الدولة العباسية جاءت متوسلة بنظرية شرعية، إلا أن النظرية سرعان ما تداعت من داخلها؛ عندما جرى الصراع الدامي مع الأحق بالسلطة؛ وفق النظرية الشرعية التي توسل الغالب بها من قبل. سقطت مبررات التأسيس بأيدي أصحابها، وستكون مدعاة لاهتزاز الشرعية ذاتها؛ عندما تبتعد الشقة بين عالم النظرية الذي يجري التأكيد عليه وعالم التطبيق. عندما نجمع بين المعطي المكاني (الصحراء) ومعطيات الحدث التاريخي، نجد أنها رجّحت انتصار الأحاديات وال (ما قبل نظرية)، وأصبح الشيوع - ومن ثم الشرعية - للاكثر مباشرة وظهوراً. وتشرعن كل هذا؛ لأنه هو المهيمن زمن التشكل الفكري. البعد الحضاري كان يقف - بتعقيداته - على ضفاف الضحالة والغوغائية التي كان عبر التاريخ في صراع معها، صراع مضمر، إلا في أحايين قليلة، كان يطفو على السطح. لاشك أن كل هذا يفسر كيف أن تيار العقلانية لا يظهر في مكان من العالم الإسلامي إلا ريثما يندثر. لا يتم هذا بقرار سلطوي في الغالب، وانما بإرادة جماهيرية، لاتزال تتدثر بلحاف الخرافة الصريحة أو الخرافة التي تؤسس على هذا القول أو ذاك. جوهر الإشكالية - فيما أرى - أن الوعي الجماهيري لايزال يرفض التفكير الحر، ولا يرضى بأن يتم فحص الحدث التاريخي الذي شكل رؤاه وقناعاته الراسخة. انه لا يصدق - أو لا يريد أن يصدق - أن معظم الأفكار والمفاهيم والقيم التي يقاتل عليها صباح مساء، نتجت من رحم الحدث التاريخي الطبيعي، والذي كان من الممكن أن يجري على نحو آخر مختلف؛ فتتغير كل هذه المنظومة لديه، وربما كان مستوى التغير أن تكون على الضد مما هي عليه الآن.