لم يكن أول رائد فضاء تطأ قدماه سطح القمر يحب الوقوف أمام عدسات الكاميرات التلفزيونية. رحل من غير أن تحتفظ له هذه الكاميرات بالود أو بشيء منه، فهو رفض التعاطي معها. لم يكن يعتقد بأن فعلته ستغير الكون وطريقة التعاطي معه والنظر إليه. ولم يستثمر شيئاً من هذا في حياته العملية التي توقفت قبل أيام بعد فشل القلب اثر عملية جراحية. عاش نيل أرمسترونغ في عزلة طوعية. ابتعد من الاضواء، وتحمل الأخبار المشككة من حوله بتصوير فيلم الهبوط على سطح القمر في أحد استوديوات هووليود في عز الحرب الباردة، وصعود نجم الخصم «السوفياتي»، وطموحاته التي ليس لها حدود في الفضاء. ربما لم تكن صورة نيل أرمسترونغ وهو يطأ السطح الغامض لتقنع التلفزيون بأهمية «الخطوة الصغيرة» لشخص من طرازه، مقارنة بأهميتها كوثبة عملاقة وجسورة في تاريخ البشرية كما صرح حينها، فآثر (التلفزيون) الالتفات في الفترة ذاتها بقوة إلى الحرب الفيتنامية لينقلها عبر شاشته الفضية لتكون بذلك أول حرب في تاريخ البشر تسجل تلفزيونياً، ويشاهدها ملايين المتفرجين. كان غريباً أن يلتفت التلفزيون إلى واقعة الحرب بهذه القوة، وثمة اكتشافات فضائية مذهلة تدور من حوله، وكأن الإثارة كانت تكمن في مآسي البشرية لا في تفوقها العلمي والحضاري والإنساني. بعض علماء الاجتماع قال حينئذ مفسراً سلوك التلفزيون إن الحدث الأرضي كان مغرياً أكثر، فلم يرتفع مصوباً الكاميرا كثيراً نحو فضاء مجهول ومعتم وحالك السواد، لأنه لا يريد أن يسجل لنفسه ربحاً غير أكيد، فيما تشتعل حرب «مربحة» بين بشر من لحم ودم على بعد أمتار من عدساته. وبصرف النظر عن تفسير من هذا النوع قد لا يبدو اليوم مقنعاً لجهة تمسكه بإثارة يصنعها بشر على الأرض، فإن عدم ترحيب نيل أرمسترونغ بالتلفزيون يظل بحاجة أكيدة لقراءات كثيرة من زوايا مختلفة. صحيح أن التلفزيون لم يسجل الواقعة كما يجب. ربما لم تتوافر له الوسائل التقنية اللازمة، واختار بوابة الحرب ليدلل، ربما، على كفاءة لم يعرفها، ولكن يظل صحيحاً أيضاً أن نيل أرمسترونغ لم يبادل التلفزيون حباً بحب وظل بعيداً منه، وينفر منه في حياته وربما في مماته أيضاً.