ساقت مجلة «الإيكونوميست» أدلة مهمة، رجّحت أنها مجتمعةً ستؤدي إلى انتعاش الاقتصاد الأميركي، بل تعافيه في عام 2013، كما تم إيضاحه في هذا الحيز تحت عنوان «هل تعافى الاقتصاد الأميركي؟»، والذي تم نشره في 31/7/2012. ولكنّ أيَّ اقتصاد متقدم، دع عنك ما وصل إلى مرحلة «ما بعد المرحلة الصناعية» كالاقتصاد الأميركي، لا يمكن أن يواصل مسيرة نموه من دون أن تؤثر فيه مؤثرات من خارج حدوده، إما تضع العثرات في طريقه أو تدفعه إلى الأمام بسرعة أكبر. ولعل الضبابية التي خلقها تباطؤ أو تراجع نمو أغلبية دول الاتحاد الأوروبي، خصوصاً التي تخلت عن عملاتها الوطنية، واستخدمت اليورو كعملة في جميع المعاملات الاقتصادية الداخلية والخارجية، هي أهم أسباب تناقض مؤشرات الاقتصاد الأميركي وتأرجحها بين الإيجابي والسلبي. ويعود ذلك إلى أن سوق دول الاتحاد الأوروبي أكبر سوق لاستيراد أغلى السلع والخدمات التي يتفوق بإنتاجها الاقتصاد الأميركي. إن أصحاب القرار في الشأن الاقتصادي في أميركا، سواء كانوا من القطاع الخاص أو من السلطات النقدية الأميركية، لا يستطيعون أن يتجاهلوا، حتى لو تمنوا، احتمال خروج دولة أو بضع دول من أعضاء الاتحاد النقدي الأوروبي من اتحاد دول أوروبا النقدي، أي التي تستخدم اليورو كعملة لها. وقد سبق الحديث، وتكرر عدة مرات، بأن مشكلات استمرار استخدام عملة واحدة في دول تحكمها حكومات مختلفة وصعوباته، أكثر تعقيداً وأصعب أضعاف المرات من وضع سياسة نقدية راشدة، أو حتى مقبولة لعملة وطنية واحدة. وحينما تضطر دولة، أو عدة دول الى الخروج من الاتحاد النقدي الأوروبي، فإن ذلك لا يمر بهدوء وسلام، وإنما يخلق اضطرابات كبيرة في جميع التوازنات الاقتصادية في ما بين دول الاتحاد الأوروبي وفي داخل كل منها، فالسويد وبريطانيا، على سبيل المثال، عضوان في الاتحاد الاقتصادي الأوروبي وليستا عضوين في الاتحاد النقدي، ولكنهما ليستا بمعزل عما تُحدثه مشكلات «اليورو» في داخل حدودهما حتى وإن كانت لكل منهما عملتها الوطنية الخاصة بها (الكرونة السويدية والجنيه الإسترليني)، فمن قوانين الاتحاد الاقتصادي الأوروبي التي تعاني منها الآن كلتا الدولتين، وقبل خروج دولة أو عدة دول من الاتحاد النقدي، حرية انتقال القوى البشرية بين جميع دول الاتحاد الأوروبي، سواء من دول اليورو أو من خارجه، وهذا فتح الباب، في واقع الأمر منذ بضع سنوات، وسيستمر هذا الباب مفتوحاً، بل وسيتوسع امام نتقال القوى البشرية من الدول التي يكون مستوى المعيشة فيها أقل من السويد ومن بريطانيا، ولذلك تسود فيها أجور أقل، إلى الدول التي تسود فيها مستويات معيشية أفضل، ولذلك أجور أعلى، كبريطانيا والسويد. وهذا «يشوِّه» (وهي العبارة التي صاغها لأول مرة في ما أعلم الزميل الدكتور عبدالواحد الحميد) أسواق العمل في دول كبريطانيا والسويد، فكيف ينافس المواطن السويدي العامل الآتي من بولندا أو اليونان أو البرتغال أو إسبانيا، الذي لا يقلل من مستوى معيشته في وطنه الأصلي قبوله بأجر أقل مما يطلبه مثيله السويدي أو البريطاني؟ إن فتح باب الهجرة، أو حتى الانتقال المؤقت بين دول توظف عملات مختلفة وتخضع لسياسات مالية مختلفة وتختلف في بنيتها الهيكلية اقتصادياً وسياسياً، دع عنك حضارياً، من نواحي اختلاف التاريخ الثقافي أو المذهب الديني (كدولة بروتستانتية وأخرى كاثوليكية) وما يتبع ذلك من عادات وأعراف، في مجالات الانضباط في مجالات العمل والمسؤولية الشخصية واختلاف درجات أهمية العمل بين الكاثوليك والبروتستانت، لا يقل في بعض سلبياته عن سلبيات الاستقدام من دول فقيرة كثيرة السكان إلى دول أغنى قليلة السكان، كبعض أعضاء اتحاد دول الخليج العربية. وملخص القول، أن أهم أسباب تناقض مؤشرات الاقتصاد الأميركي من إيجابية ترجح الانتعاش والنمو، وسلبية ربما خلقت تحويلات وعثرات في طريقه، تعود إلى طبيعة أي اقتصاد ضخم معقد لا يمكن أن يكون مساره معزولاً عما يحدث في بقية دول المعمورة. وآخر المؤشرات عن قطاع الإسكان، المهم جداً في اتجاه الاقتصاد الأميركي كانت إيجابية، ولو كانت إيجابيتها بنسب أقل مما يمكن أن يؤدي إلى رفع متوسط نسبة الاقتصاد الكلي. * أكاديمي سعودي.