في فيء العمر الذي صار جبلاً، تستوطن قبيلة من الذكريات تجمعت وتكدست البقعة ذاتها من باطن العقل، فصارت شعباً عريقاً يخوض غمار أمنيات متسلسلة بإنتاج خاص ورؤية إخراجية ذاتية. وعلى رغم تأثير الذكريات البالغ فينا، إلا أننا ننسى كثيراً منها. ننسى التفاصيل، ننسى الأسماء، ننسى الملامح، وبعض الشخوص. لعل ذاك اعتيادنا عليها وعلى ما صنعته فينا... فصرنا معها ككفيف حفظ زوايا بيته عن ظهر قلب، وما عاد البصر يُشكل لديه بعيد غاية، أو عميق حاجة. حين يسكت الكون عن ضجيجه لبرهة من حولنا، وحين تضيق مساحة الفضاء ولا نكاد نرى شيئاً فيه غيرنا بماضينا وحاضرنا فقط... حينها، يُجبرنا هذا الفراغ على التجوال سيراً على الأقدام العارية قسراً، فنعيد اكتشاف أروقة منسية، ومنعطفات تلاشى دقيق معالمها. إذاً، ليس الحنين ما يُرجعنا إلى تلك النقطة البعيدة جداً في عمق الذاكرة. ليس الحنين أبداً. إنه ملل الفراغ، وليس الفراغ وحده. فلا تنخدعوا مجدداً بالملل الذي استوطن متسع الفراغ فضاق به. ولا تحسبوه تخاطراً بثه إلينا روح مضى وولانا الأدبار حين احتياج، وانبعث الضمير فيها على حين غفلة من القدر، فجاءنا يمسك بوق الحنين ويستجدينا لنيل دور مكرر في حاضر الأيام أو مستقبلها. هناك، في مدينة الذكريات ذاتها وأثناء تجوالنا العبثي لتفقدها، سنجد كثيراً منها منهكاً، نائماً يحسبه المار ميتاً، ومنها ما سيكون نصف نائم، كذئب بنصف عين مغمضة ينتظر قطيعاً من السذاجة والحنين والفضول ليفترسه من دون رحمة أو عناء. وبعض آخر يلهو ويلعب، وينبش تربة الأيام لعلها تخصب وتزهر بشيء من الورود على قارعة الصدفة أو القدر. في كل الأحوال ومهما اشتدت بك الوحدة أو مارس عليك الملل صنوفاً من إغراءاته، حذار أن توقظ نائماً في الذاكرة وإن بدا لكَ كطفل حالم، أو كمجرد جثة محنّطة لا روح فيها، فبعض الذكريات كعنقاء شرسة، متى ما استيقظ صار تنيناً، لا يُلجم هياجه ولا تنطفئ ناره أبداً.