ربما أوضحت حكاية جنوبية أوردها الباحث علي السلوك في الجزء الثالث من كتابه «موروثات غامد وزهران»، ما أقصده من أن «هذه القصة لم يكتبها منصور الحازمي» ظل المؤلف سعيد السريحي. تروي الحكاية أن شاباً مرّ بجوار أحد البيوت فأعجبته فتاة، فحرّك شفتيه بما يدل على تقبيلها، أخبرت الفتاة أهلها، فاجتمع كبار القرية، وبعد أن تشاوروا اتفقوا على أن يُرمى ظل الشاب جزاء فعلته، ومن هذه الحادثة وُلد المثل الجنوبي «خذ نص مالي ولا ترمي خيالي». وإذا ما وسعت الفكرة فسأستعين بالمفكر المغربي عبدالسلام بنعبدالعالي، الذي كتب مقالاً قصيراً (الحياة. العدد 17906. الجمعة 13 نيسان 2012. الموافق 21 جمادى الأولى 1433) عن العوائق التي حالت بين التكوين الفلسفي، الذي تلقوه في الجامعة في ستينات القرن الماضي، وبين ما أُطلق عليه «حداثة فلسفية». ولكي يوضح العوائق التي حالت آنذاك بين جيله في الستينات وبين الوقوف على معالم الحداثة الفلسفية، يستحضر تمييز الطالب والفيلسوف الفرنسي في ما بعد جيل دولوز، بين الأستاذ الجامعي وبين المعلم الذي يفرض جِدّة جذرية، ويجد طرق التفكير المناسبة للحداثة. أنهيت المقال لأعود بالذاكرة إلى الوراء بين عامي (1984 - 1988)، آنذاك كنت طالباً في جامعة أم القرى، وفي الحقيقة لم يكن ينقصنا آنذاك قاص أو شاعر أو أساتذة أكاديميون، فكان من أساتذتنا الجامعيين آنذاك القاص والشاعر وخيرة المتخصصين في علوم اللغة العربية. وكما قال بنعبدالعالي عن أستاذته أقول أنا عن أساتذتي آنذاك، «فاشتهر معظمهم بالمثابرة والانضباط وحب العمل والتفاني فيه، بل إن غالبهم كان يتعلم ليعلمنا»، وأجد نفسي الآن بعد خمس وعشرين سنة أتذكر الأستاذ الذي درسنا انعكاسات «محاكاة» أرسطو وتأثيرها في تاريخ النقد، أقول أتذكر شعوري بأنه مرهق ومجهد، والآن فهمت أنه ربما من أجل أن نتعلم، لم يكن واثقاً من أنه فهم على ما يرام ما حضّره لنا، وما إذا كنا سنفهم حتى لو لم يفهم هو. آنذاك كنا نقرأ، ترتب على ذلك أن أساتذتنا يشرحون في الغالب ما كنا نعرفه، وفرادة كل واحد منهم ليس في ما سيعلمنا إياه، إنما في طريقة تعليمه، في الواقع على رغم حسن النيّة كانوا كمن يبني خماً لدجاجة، لذلك لا يستطيع الجمل دخوله، كما يقول جلال الدين الرومي. لم تكن الكتب الجامعية تعني لنا شيئاً، على رغم أننا كنا جادين في درسها وحفظها ومنتبهين إلى ما يشرحه الأساتذة عنها ونهمّشها به، إلا أن ما نريده كان وراء القاعة، كنا نريد من أحد ما أن يفتح النافذة، ويتركنا نرى بعيوننا، نحن فضاء الأرض وفضاء السماء الواسعان. آنذاك قرأنا النقاد والمبدعين المهمّين خارج القاعة، قرأنا بصورة خاصة عبدالله الغذامي، الذي كان يتبوأ مركز النقد الأدبي آنذاك، وأكثر من ذلك الناقد الأبرز والأكثر تأثيراً باعتباره الناقد الحداثي المتوج، وكأستاذ جامعي تحول إلى شخصية ثقافية عامة، استغل حضوره الإعلامي ليكرس أطروحاته، إلى حد أن محاضراته العامة كانت بمثابة أحداث ثقافية كبرى. بعد أن قرأناه وسمعناه، وجدناه يمثل ما نعرفه، وأُتخمنا به في قاعات الجامعة، أعني الأستاذية. في الحقيقة، مثل لنا الغذامي آنذاك أستاذاً كبيراً، لكنه لم يكن معلماً ولا ملهماً، كان باحثاً دؤوباً ومجتهداً لكنه لم يكن موهوباً، وكشفت لنا النصوص التي كان يختارها موضوعاً لنقده، أنها ليست نصوصاً نموذجية، لكي يكون نقد الأستاذ في كامل توهّجه. غير أن ما افتقدناه عند عبدالله الغذامي الأستاذ الجامعي والأكاديمي الكبير، وجدناه عند سعيد السريحي المحاضر آنذاك، وعني لنا ما عناه سارتر لدولوز الذي استشهد به عبدالسلام بنعبدالعالي، أعني المواضيع الجديدة والأسلوب الجديد والسبل الجديدة للمشاكسة والجدل، والأهم من هذا كله، أن السريحي نفسه الذي لا يشبه أحداً ولا يُحاكي الآخرين. آنذاك كان سعيد السريحي محاضراً في جامعة أم القرى، لكنه ابتعد أو أُبعد عنا نحن طلاب اللغة العربية ليدرّس اللغة العربية في أقسام أخرى، كنا نحسد طلاب تلك الأقسام، نطلب منهم أن يحدثونا عنه، قيل لنا إنه «حداثي»، أهو يشبه ما نعرفه عن أساتذتنا؟ كان هؤلاء الذين نسألهم يبدأون الحديث عنه من تفصيل صغير كالعقال المائل أو من الكتاب الضخم الذي يتأبطه، لم يكن يهمنا أن كان ما قالوه صدقاً أو كذباً، إنما يهمنا أن تُوسّع تلك التفاصيل الصغيرة، لتتحول إلى حكاية عجيبة وغريبة عن ذلك المعلم، الذي يُدعى حداثياً. قرأنا السريحي، وعرفنا الفرق بين أسلوب السريحي وطريقة الغذامي، أي الفرق بين الأستاذ وبين المعلم، يُحاكي الأستاذ الطريقة بينما يبدع المعلم في الأسلوب، كان الغذامي الأستاذ يشترك مع أساتذة آخرين كجابر عصفور وصلاح فضل وكمال أبو ديب وآخرين قرأناهم آنذاك، وما ألهمنا السريحي المعلم، أنه هو نفسه ما يعني أن نكون نحن أنفسنا ولا نشترك أو نحاكي. كنا - في الواقع - أمام كيفيتين أساسيتين لتعامل كينونةِ كلِّ واحد منهما مع إمكاناتها، أعني كيفية وجود كينونتهما الأصلي أو المزيّف، لا علاقة هنا للأصالة والزيف بالمعنى الأخلاقي، إنما بالمعنى الوجودي إذا ما توسعت في فهم هايدجر إلى حد يصعب فيه متابعته. مثّل لنا عبدالله الغذامي آنذاك الوجود المزيّف من حيث إنه يقوم ما قام ويقوم به غيره من الأساتذة، يقع ضحية ما يقرأه أو يعجبه، وعلى العكس من ذلك مثل لنا سعيد السريحي أنه الوجود الحقيقي؛ أي أن تنبثق مشاريعنا واختياراتنا مما تخصنا نحن، ومما هو أصيل فينا. بعد هذا الذي قلته، لا يمكن أن يكون نص «هذه القصة لم يكتبها منصور الحازمي» إلا لسعيد السريحي؛ لأن النصوص تشبه مؤلفيها، أذهب إلى هذا ثم أتردد في تبنيه، لكنني أتساءل عن السبب الذي يُميت المؤلف، ويحيي النص! ربما لأن تفكير الناقد سمح له بأن يميت المؤلف، ليحتل مكانه، وهو المعنى الذي يُفهم من كون الناقد غازياً والنص مغزواً، كما شاع في نقد الثمانينات. لكن ومن وجهة نظر أخرى، ألا يشبه النص صورة المؤلف التي يراها في كل مرآة؟ أليس هو وليس هو؟ ألا يأتي معه، يلوح ثم يغادر؟ غير أنه يمكن أن يُعثر عليه إذا ما ذهب أحد يبحث عنه، وهو ما عثرت عليه هنا إلى حد أنني أسمع صوت السريحي، وأشاهده وهو يتحرك، ليضع يده على كتفي. إن تأليف نص ما هو فعل متعمّد؛ والمؤلف يرغب أن يقرأ القراء نصه، وإذا ما أردت أن أحسّن معالجة الفكرة فسأضع المؤلف موضع الإخراج المسرحي للنص، أي يحول المؤلف أوجها من شخصيته إلى أوجه من اللغة في نصه، يخوض حروباً سرية، ويرتب جميع أنزاع الجدل في نصه. يعرف المؤلف على مستوى ما أنه يفعل هذا، وترتب على هذا أن كان نص السريحي هنا يراوغ التصنيف كمؤلفه، يتحدث مع المفاهيم، ويدخل معها في سجال، يناقش بصورة ملتوية. يكوّن وجهات نظر نقدية وفلسفية من غير أن يسمح بتطور السرد أن يفقد موقفه الحذر من القضايا. لهذا كله فهو كمؤلفه يمثل التصالح معهما تحدياً جدياً أمام القارئ العادي. المؤلف شخصية حديثة كما يقول رولان بارت وأكثر من ذلك، فهو بدعة التاريخ الأدبي الذي جعل منه مفهوماً إجرائياً لتحليل النصوص، ثم نُسي ليُجرّد من قيمته ومعناه وحقيقته، يبقى السؤال: هل يجب أن ننسى الشيء ونحن نرى ظله؟ أظن أننا نحتاج إلى أن تذكر قليلاً من الشيء، لكن هذا القليل الذي نحتاج إلى أن تذكره ونحن نرى الظل هو قليل جداً. لكم أن تصدقوا ما رويته وحللته، ولكم أن تتعجبوا، ولكم أيضاً أن تشكّوا وتتهموا، أنتم أحرار، كما يقول الراوي في رواية موسم الهجرة إلى الشمال، هذه وقائع مضى عليها زمن طويل وهي كما سمعتم الآن، أقولها لأن هذا النص الظل ذكرني بسعيد السريحي آنذاك. أريد أن أختم بفكرة طرأت على بالي الآن، وهي: ربما اختلق خيالي ما رويته، هذا ممكن لكن الصورة التي رسمها خيالي واقعية، تتطابق مع سعيد السريحي المعلم، إن هذه القصة فعلاً لم يكتبها منصور الحازمي الأستاذ والأكاديمي الواقعي، إنما كتبها سعيد السريحي المتخيّل. هامش أُلقيت هذه الورقة في نادي جدة الأدبي، ضمن نشاطات «جماعة جدة النقدية»، مداخلة على ورقة سعيد السريحي المعنونة «هذه القصة لم يكتبها منصور الحازمي».