«الطلب من البشر أن يفهموا ظاهرة الذكاء هو أشبه بأن يطلب من بزّاقة أن تجري تحليلاً نفسياً». ظهرت هذه العبارة في تسعينات القرن الماضي ضمن تعليقات إعلامية عن هزيمة بطل العالم في الشطرنج غاري كاسباروف أمام الكومبيوتر «ديب بلو». وتفيض كلماتها بالقسوة على قصور الإنسان عن فهم القدرة على التفكير التي يتمتع بها، بل يعتبرها أساساً في التعريف به. ثمة نقاش مديد تماماً عن كون الانسان كائناً مفكراً. إذ اعتبر الذكاء والتفكير من الصفات التي يحتكرها البشر. ووصف الفكر، على لسان الفيلسوف رينيه ديكارت، بأنه يشبه «الروح في الآلة»، بمعنى أنه شيء لا يتّصل بالدماغ، وهو العضو الأكثر التصاقاً بالفكر والذكاء. ثمة مدارس فلسفية عدّة، رفضت أن يكون الذكاء هو محصلة عمل الدماغ، بل اعتبروا الأخير مجرد أداة تعبّر عنه. وفي المقابل، هناك من فكّر في الاتجاه المُغاير كلياً، بمعنى اعتبار الفكر نتاجاً مباشراً لدماغ البشر وتطوّره وأعصابه ومراكزه. «هل تستطيع الآلات تقليد البشر؟» قبل قرن، وُلِد في بريطانيا آلن تورينغ (1912- 1954)، الذي يُعتبر من أشد المؤيّدين للنظرة القائلة ان الفكر هو نتاج مباشر لعمل الدماغ. علينا أن نقلب سؤال «هل تفكّر الآلات»؟ الى سؤال أكثر قرباً الى معطيات العلم، بمعنى أن نسأل «إلى أي مدى تستطيع الآلات تقليد البشر؟» تعطي هذه الصيغة نموذجاً عن طريقة تناول تورينغ لمسألة الفكر. لم يكن تورينغ عالماً من النوع الذي يقصر اهتمامه على حقل بعينه. كان عالِماً مركّباً، إذا جاز التعبير، بمعنى أنه خاض في مجموعة واسعة من العلوم شملت الرياضيات والمنطق وتحليل الشيفرات العسكرية والكومبيوتر. ربما يجدر التمهل عند القول انه من اختصاصيي الكومبيوتر، لأنه يعتبر من مؤسسي هذا العِلم أصلاً. واشتهر بصنعه آلة نظرية سمّيت «آلة تورينغ»، تتمثّل مهمتها في توهين الفارق بين تفكير الانسان والآلة. واستطراداً، اشتهر عن هذا العالِم أنه وضع «اختبار تورينغ»، الرامي الى التمييز بين الانسان والآلة؛ بالأحرى أنه اختبار لمدى تقدّم الكومبيوتر في مسار تقليد البشر، وصولاً الى انتفاء الفارق بين التقليد والأصل! في هذا الاختبار المُعقّد، يدخل انسان في احدى الألعاب التي تحتاج الى تفكير مجرّد، كأن تكون لعبة الشطرنج. ويلعب ضد لاعبين لا يراهم، أحدهم آلة ذكيّة. وكلما تطوّر ذكاء الآلات، قلّت قدرة اللاعب البشري على تمييز خصمه، فلا يعرف إن كان يلاعب بشراً أم آلة مبرمجة للعب الشطرنج. وفي عمل يبيّن قدرته على التمكّن من الرياضيات والمنطق والفلسفة، اشتغل تورينغ في ثلاثينات القرن العشرين على مقولات المُفكر النمسوي كرت غودل، وهو أحد مؤسسي الرياضيات الحديثة خصوصاً «نظرية المجموعات» Sets Theory. وفي تلك الأزمنة، نادى غودل بمقولة شهيرة عن محدودية الرياضيات في الوصول الى الكمال في الحوسبة (بمعنى تحويل العمليات الفكرية كلها الى مجموعة من المعادلات الرياضية) وكذلك الحال بالنسبة لقدرة الرياضيات على تقديم براهين منطقية متكاملة. ورأى تورينغ أن أعمال غودل قوية، لكنه دعا الى تجاوزها، إذ تكمن قوة أعمال غودل في صنعه لغة عالمية تستند الى معادلات الرياضيات، وتستطيع ان تؤدي مهمات لغة البشر في التواصل والنقاش وصوغ الحجج والمقولات والفرضيات وغيرها. وفي المقابل، رأى غودل أن هذه اللغة لها محدداتها. ولم يرق لتورينغ إحساس غودل بالإخفاق. واستنبط لغة رياضية سهلة، رأى أنها تستطيع أن «تعادل» لغة البشر. وأُطلِق على هذه اللغة إسم «آلة تورينغ». ولغاية الآن، ما زالت هذه الآلة تواجه تحديات جمّة في تقليد لغة البشر ومرونتها وإشاراتها واستعاراتها ومجازاتها وكناياتها ومحمولاتها كافة. وبعد ما يزيد على نصف قرن على الوفاة الغامضة لتورينغ عام 1954، إذ عُثر عليه ميتاً بسمّ السيانيد، ما زال علماء الكومبيوتر ينكبون على تطوير «آلة تورينغ». ولعل هزيمة كاسباروف أمام «بلو ديب» هي إحدى نتائج هذه الجهود.