لم نعشْ تلك الفترة، فترة الوقوع في الحب، أو كما يسميها أكثرية الناس عندنا، «فترة الخطوبة»، أو كما يسميها البعض القليل الآخر «فترة التعارف على البعض»، ما يعتقد الطرفان أنه الكفاية. قررنا بصورة مباشرة العيش مع بعض: تزوجنا، وحدث الأمر بصورة سريعة ومباشرة هكذا، كما لو كان يحدث دائماً على هذه الصورة، ولم يكن في شكل آخر. لم يكن قرارنا مفتعلاً، وإذا تركت الحديث عن نفسي وتحدثت عنها، فهي لم تبدأ مثل أية شخصية مفتعلة أخرى؛ كانت حقيقية وكاملة وتلقائية. انتقلت إليّ مباشرة، غيّرت بلادها، غادرت صديقاتها، أصدقاءها، أهلها، وجاءت لتعيش معي: «نعيش معاً، لأننا نحب بعضنا»، كما واظبت على البوح لي، حتى ونحن نجلس أمام التلفزيون. جاءت لتكون شريكتي. وأنا أكون شريكها. بالفعل كنا شريكين بكل شيء، ولا أريد الحديث عنها، سأتحدث عن نفسي. كنت اسمعها بالفعل تتنفس، تضحك، تصرخ، تتألم، أو تتأفف. كانت حقيقية، كانت هناك وكانت تقول: أنه أمر مضحك، أن يعيش اثنان معاً مثلنا، خارج كل عرف، ويتحمل بعضهما بعضاً. كنا نفهم بعضنا بعضاً بضع مرات بصورة أفضل وفي المرات الأخرى بصورة أقل سوءاً، وفي بقية المرات بصورة أقل من جيد. نادراً ما كان يحدث، أننا لم نفهم بعضنا بعضاً. كنت أعرف، متى تأتيها العادة الشهرية، ومتى تشعر بالوعكة، بآلام الظهر، لم أنظر لها كقديسة أو من الأفضل القول، لم أكوِّن صورة متخيلة عنها، مثلما يفعل المراهقون، كلا، كانت هي بالنسبة لي حقيقية؛ كانت هناك. حتى هي، كثيراً ما كانت تقول: «إن التعرف على البعض بصورة أفضل يعني قبل كل شيء معرفة الجوانب السيئة، غير المريحة، التي يستطيع المرء عادة إخفاءها، مستغلاً الذكرى الأولى، الانطباع الأول الذي يدوم». لا أحد يعرفني بصورة جيدة مثلما تعرفني هي، كانت تعرف، متى أكذب عليها، مثلما كانت تعرف أي دور كنت ألعب أمامها بالضبط. بالصورة المقابلة كنت أعرف، ما كان يجب عليّ قوله، بخاصة عندما لا أشعر بالراحة. في المساء كنا نحكي لبعضنا، ما مر بنا طوال اليوم، كنا نحتفظ لأنفسنا ببقايا أسرار صغيرة بالطبع. وإذا ذهبنا الى الفراش في اللحظة ذاتها، فإننا سننام مع بعض مباشرة، وإذا لم يكن علينا الاستيقاظ مبكراً فسنفعل ذلك في الصباح أيضاً. صباحاً تحكي لي، ما حلمت به، أما أنا فأحكي لها عن أحلامي بطريقة أمنحها فيها الانطباع بأنني حلمت وأحلم بها فقط. كانت تحضّر القهوة وأنا أشتري الخبز. هي ذاتها تشرب الشاي، وعند الفطور، وقبل الذهاب إلى العمل، اعتادت القول: «لقد تجاوزنا مرحلة تجربة بعضنا بعضاً، مرحلة الاندهاش والإعجاب ببعض، مرحلة الوقوع في الحب، لحسن الحظ نحن أعلى من ذلك. أننا نعيش مع بعض، بسعادة». كنت أغادر البيت قبلها، ساعات عملي ثابتة، ثماني ساعات يومياً، تبدأ عند التاسعة صباحاً. لم تعمل هي إلا في بعض أيام الأسبوع، نصف «جوب» كما يُقال عندنا. وفي أيام خروجها، تخرج معي. كنت أنا أقود السيارة، وهي تجلس إلى جانبي، وتقول: «أنا سعيدة لأنك تسوق». تعلمت «السواقة»، لكنها ظلت تخاف الجلوس وراء المقود. كانت تقول أيضاً: «نحن نكمل بعضنا البعض». كانت هي تطبخ وأنا آكل، وأغسل الصحون. كان بإمكاننا أن نملك الأطفال، ولكنْ لم يحصل ذلك، مع أنها هي التي تخبرني، أنني دائماً أسافر أو أمرض في أيام نضج البويضة عندها. أصمت، وأرد عليها بلطف، بأنها الصدفة لا غير. لكني أفكر، لماذا يحدث ذلك بالفعل؟ ربما لم تكن عندنا أسباب كافية تحفزنا على بذل جهود خاصة، أكثر من أن نكون معاً، من أجل إنجاز الحمل مثلاً؟ لكن، كما يبدو أننا نصلح لبعضنا فقط هكذا، بطريقة غير معقدة لا تثير التساؤل، حالتنا طبيعية، لم تغطّها سماء وردية أو تكدرها غيوم سوداء، لم نكن غير سعداء أو حزينين، كنا هناك راضين بوجودنا معاً، وجودنا غير الثقيل وغير الخفيف في الوقت نفسه، وجودنا الحيادي. مع ذلك، لم يكن علينا التظاهر أمام البعض بصورة دائمة. كنا نذهب الى السينما ولم يكن علينا الشجار بسبب الأفلام، كنا نقرأ الكتب ذاتها، ولم نقرأ ذات يوم كتابين مختلفين، متعارضين، يحملان رؤيتين مختلفتين. لم نتشاجر إلا بصورة نادرة، يمكن إحصاؤها، وغالباً ما يحدث ذلك بسبب أمور تتعلق بمضامين ما، على الأغلب بسبب أمور صغيرة: من يذهب إلى غرفة الحمام في الصباح أولاً، أو من منا يقرأ الكتاب للنهاية؟ كانت تبدأ كل يوم مع كتابين أو ثلاثة في الوقت ذاته وتتركها موزعة في كل مكان في البيت، ربما لم ترغب في قراءة أحدها للنهاية، لأنها لم تكن تريد، أن ينتهي شيء ما على الإطلاق. كانت تخاف من ذلك ببساطة. كنا نذهب دائماً معاً للأكل في أحد المطاعم، وكان عندنا دائماً ما يكفي للحديث، لم يكن علينا الذهاب يومياً، كنا نظل في البيت أيضاً، جالسين أو مسترخيين على الصوفا، لم نعرف، أو لم نشأ أن نعرف أن الانسجام يمكن أن يصنع الملل أيضاً. ليس الأمر جميلاً، عندما ينتهي اليوم مثله مثل أي يوم آخر، ويسبب للمرء الملل القاتل حتى الموت. كنا نتصرف أمام بعضنا دائماً، كما لو لم نكن نعرف، أننا من غير الممكن أن نبقى حتى نهاية حياتنا معاً على هذه الحالة، وعندما تريد إثارة غضبي، كانت تقول: «ربما أن ما نمر به هو جزء فقط مما نطمح إليه»، أو «ليس بسببك أنت أو بسبب شخص آخر، إنما من الأفضل لنا أن نترك التفكير بالأبدية إلى يوم آخر». بالفعل أنا أيضاً كنت اعتقد بأنني لن أستطيع الاستمرار على قيد الحياة إذا لم أعد أراها ذات صباح. كان الأمر يتعلق بنا نحن الاثنين، كانت لعبة متعادلة، متقنة بصورة جيدة، نعرف كيف نديرها نحن الاثنين. * كاتب عراقي.