مع انتخاب الرئيس الياس سركيس رئيساً للجمهورية اللبنانية (1976) كان نظام الرئيس حافظ الأسد قد وضع يده رسمياً على لبنان. لم يبق إلا بعض الإجراءات التنفيذية من نوع طبيعة الحكومة الأولى في العهد الجديد، ومصير عدد من الشخصيات والقوى السياسية، وصولاً إلى رئيس الحكومة والوزراء وتسمية كبار الموظفين ابتداء من قائد الجيش... ثم حل المسألة التي تؤرق النظام الدمشقي على نحو خاص: ضبط الإعلام اللبناني. البحث في المرحلة الجديدة تولاه مع الأسد الوزير فؤاد بطرس الذي نقل إلى سركيس. خلاصة اجتماعه الأول مع الأسد: «سورية... مصرة على تجاوز كمال جنبلاط والشيوعيين» في حكومة العهد الأولى. استمر البحث عن تلك الحكومة شهرين. كان لا بد من لقاء ثان مع الأسد. استعرض بطرس الأسماء المرشحة فكانت أجوبة الرئيس السوري على النحو التالي: «رشيد كرامي لا محل له في طرابلس»... «كمال جنبلاط انتهى. لم يعد يمثل شيئاً،... وكل من يحسب على جنبلاط، ينطبق عليه الحكم الذي على جنبلاط سواء عقائدياً أو درزياً». ريمون اده لا ينبغي توفير الحماية له، بعد تعرضه لسلسلة اعتداءات، فتوفير مثل هذه الحماية سيكون «إشارة تطمين» لمعارضي التدخل السوري في لبنان... أما الإعلام إذا ترك على حاله ، «فهذا أمر خطير- يقول الأسد - لأنه يتعلق بجيشنا ومعنوياته وانضباطيته. لذلك لا يمكننا أن نقف مكتوفي الأيدي... إعلام الصنائع يشتمنا منذ سنة فلا بد أن يمدحنا مدة سنتين...». استغرق الأمر أشهراً قليلة ليقتل جنبلاط ويبعد ريمون اده وتدجن الحركة الوطنية، وليتم القضاء على «منشقين» شكلوا حجر عثرة أمام مشروع الهيمنة والتحكم من قرب، في مسلسل توالدت حلقاته على مدى عقود، عزلاً وإرهاباً وإغراء ... وقتلاً. لم يكن سلوك الأسد الأب في لبنان مختلفاً عن سلوكه تجاه رفاقه في الحزب والجيش والشعب في سورية. كان على اللبنانيين توقع ذلك، وبعضهم توقعه ودفع الثمن، لكنهم مع أشقائهم في سورية أكلوا يوم أكل الثور الأبيض، واستمرت الوليمة حتى قيام عصر الوريث، عندما تأكد للجميع، للمرة المليون، أن لا مجال للاعتراض أو للانشقاق، فالمنشق سيقتل، اغتيالاً أو انتحاراً أو سجناً، وإذا تمكن من النفاذ بريشه سيعتبر مقالاً بسبب خيانته أو فساده أو ولائه للصهيونية والإمبريالية والرجعية، أو سيكشف أن «تاريخ أسرته حافل بالعمالة» كما قيل عن «السيد رئيس الوزراء رياض حجاب» فور مغادرته سفينة النظام. الانشقاق في الأنظمة الدكتاتورية جزء مكون وأصيل. كل من هو تحت رأس الهرم مشروع انشقاق كامن. في ظروف استقرار النظام لا تتيح آليات القمع والإغراء ظاهرات انفصال جماعية، ويواجه المعترض بعزل مديد. تمتلئ السجون بالمعارضين المنسيين، ولا يأمل المنفيون بعودة. شيئاً فشيئاً تصبح السلطة في مكان والناس في مكان آخر. يبني الدكتاتور سلطته في دوائر تبدأ من حلقة ضيقة عائلية في الغالب، تليها حلقات أمنية وسياسية واقتصادية. وتتيح تلك الحلقات والدوائر إمساكاً حديدياً بمفاصل الحياة اليومية للبلد وشعبه، لكنها، في الوقت نفسه، تولد شرخاً لا يني يتسع في انتظار لحظة القطيعة. السلطة الفردية ثلاثة نماذج قدمتها تجربة السلطة الفردية في العالم العربي تشابهت في التكوين والمصائر: عراق صدام حسين وليبيا القذافي وسورية الأسد. اختصر هؤلاء بلدانهم بأشخاصهم فوجدوا أنفسهم معزولين عند تعاظم التحديات. وصل الجيش الأميركي إلى بغداد في عام 2003 من دون مقاومة تذكر لأن العراقيين كانوا سئموا منذ زمن طويل حاكماً يخوض حروباً على مقاسه. كانت مواجهة الغزو حرب صدام لا حربهم، وفي لحظة ما، كان الاحتلال محررهم. وعندما هاجمت الطائرات الأميركية مقر القذافي في باب العزيزية عام 1986 ترك الليبيون عاصمتهم واتجهوا نحو تونس أو إلى خارج المدينة. كانوا يقولون: إنها حرب القذافي وليست حرب الليبيين. يتحول الديكتاتور بسرعة إلى مساوم مع الخارج لتأبيد سلطته، وإلى سجان في الداخل للحفاظ على هذه السلطة. سيقف الخارج إلى جانبه ما دام قادراً على تقديم الخدمات، وسيفكر في استبداله أو إبقائه بهدوء، إلا في حال اندلاع ثورات تفرض سياقها وشروطها. في حياة النظام السوري المديدة، فقدت القيادة مبرراتها الأيديولوجية على مدى سنوات. تحول شعار تحرير فلسطين إلى سلام دائم مع إسرائيل. التعابير والمصطلحات تغيرت. الكيان الصهيوني الغاصب الذي كان التعبير المستخدم في عصر انقلابات البعث الأولى أصبح بكل بساطة: إسرائيل. وبسحر ساحر، أخلى شعار التحرير مكانه لشعار الرفض، ثم إلى الصمود والتصدي، فإلى الممانعة... حتى باتت نكتة أهل البلاد النظر إلى أية صخرة على طرقات الشام والقول: «على هذه الصخرة ستتحطم مؤامرات الاستعمار». الأولوية للسلطة، ومن أجلها تبذل الأرض وحيوات الناس ومعيشتهم وحريتهم وكراماتهم، وللحفاظ عليها تضيق الحلقات والدوائر المتسلطة بحيث لا يبقى سوى الأكثر إخلاصاً والتزاماً بالأوامر والتوجيهات. مع اندلاع الثورة في سورية، وبدلاً من توسيع قاعدة الحكم، ازدادت مركزة القرار حدة، الجميع تحول خلية أزمة، من الرئيس إلى الحكومة إلى مجلس الشعب. الأمن يضبط الإيقاع، والإصلاح لا مكان له في زمن الحرب والحلول الأمنية. ومن العطري إلى عادل سفر ورياض حجاب توالى رؤساء حكومات من الحاشية أو من تبقى منها، لتتصاعد في المقابل حملة الحسم الأمني من دون نتيجة غير إغراق سورية في الدماء والدمار. بات الانشقاق عن آلة النظام في اللحظة الصعبة التي وصل إليها، مؤشراً إلى مصيره الحتمي، وليس كما يقول بعض المدافعين عنه، في استكبار يستغبي المواطن السوري والعربي، من أنه مجرد هروب من ساحة المعركة لا يؤثر في نتائجها. وبلغت عمليات الانشقاق حداً خطيراً خلال شهور الثورة وشملت عسكريين وسياسيين لتصل إلى أعلى منصب في الدولة بعد منصب رئيس الجمهورية. لقد كشف انضمام رئيس الوزراء رياض حجاب إلى المعارضة وهو البعثي النشيط والموثوق، بعد القصف الذي تعرضت له دمشق وحلب، (وهو ما لم تتعرض له المدينتان لا في أيام الانتداب الفرنسي ولا في ظروف المواجهة مع إسرائيل)، مدى الاستياء الذي يسود النخبة السورية من سياسات القمع الدموية، واستعداد هذه النخبة، الشريكة أصلاً في سلطة الاستبداد، لترجمة استيائها إلى أفعال، وهذا تحول ما كان أحد ليحلم به لولا قناعة تتبلور بأن النظام سائر إلى السقوط، وهو، بالتالي، أعجز من أن يمارس مع المنشقين ما سبق وفعله على مدى أربعين عاماً في لبنان وفلسطين وسورية على السواء. يخشى مغادرو مركب الأسد الأسوأ... مثلهم في ذلك مثل كوفي أنان الذي يمكن تصنيف استقالته من مهمته كوسيط بمثابة انشقاق دولي عن نظام كان يريده «وسيطاً إلى الأبد»، لكنه نجا ولو متأخراً من وصمة إبادة جماعية جديدة كانت ستلحق به، تضاف إلى فشله في رواندا والبوسنة والصومال والبلقان... وسينتظر أنان دوراً آخر، أما المنشقون من أهل السلطة في سورية عن القمع في بلادهم فأدوارهم سيرسمها مسار الصراع على الأرض وشكل مساهمتهم فيه. * صحافي لبناني من أسرة «الحياة»