المجموعة الخامسة للشاعر السعودي أحمد الملاَّ «كتبتنا البنات» تعكس شغفاً عالياً بالتشكيل ورغبة في مقاربة فن الرسم، فالشاعر ينتبه الى العلاقة الوشيجة بين الشعر والتشكيل، فيرسم لوحات فيها مقاربات واضحة لحركية المشهد وقابليته للاستعادة في ذهن القارئ ومخيلته. هي تجربة تتبع الفكرة والمخيلة وصورة الواقع باعتبارها جميعاً مرئيات تقع في قلب الشعر باعتبارها مرايا تعكس بدرجات متفاوتة وعي الشاعر ووعي القصيدة معاً. في «كتبتنا البنات» (منشورات المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء- بيروت والنادي الأدبي بالرياض) تنتبه القصيدة لموضوعات حياتية يومية ولكن لا تكتبها كما تراها حدقة الشاعر وحسب، ولكن بالذات كما تتبدى من حدقة المخيلة: القصيدة في هذه المجموعة الجديدة تجول حرة في عوالم تقارب واقعنا، تشبهه أو هو يشبهها ولكنها لا تتطابق معه، بل هي لا ترغب في ذلك التطابق، إذ يسعى الشاعر وتسعى قصيدته لتجاوزه نحو أفق تبدو فيه صورة الواقع «ملتبسة» الى حد ما، أو إذا شئنا الدقة تأتي وفيها من غموض الشعر وغموض الفن عموماً ما يجعلها تخاطب بدورها مخيلة القارئ ووعيه على السواء: «أليسَ هناكَ من يسمع؟/ تَعِبَ الليلُ من رفقةِ الشمع ِ/ولم يفطنَ اللهب./ أين ذهبَ الصمتُ نديمُ الغيابِ؟/في أيّ نافذة ٍتوارى الكلامُ/ ومالَ غصنُهُ؟/ متى تبخّرَ النعاسُ وغطسَ / في ضبابٍ آتٍ من البحرِ؟». لا نعثر في قصائد المجموعة على «موضوعات» يمكن تأطيرها لتمنحنا معانيها المألوفة أو المتوقعة، فالموضوعات هنا تمر على عجل فيما الشاعر يلتقط منها جزئية هنا وأخرى هناك، ليكتبها بعد أن يعيد تشكيلها على نار الوجد الذاتي واللوعة الفردية بالغة الخصوصية. أكاد أقول هنا إن كل تلك «الموضوعات» ليست سوى ذريعة للشعر، إذ هي قبل ذلك ذريعة لاستقصاء اللوعة الفردية بما فيها من أرق وجودي يحتفل بكل ما في العيش الراهن من محن «صغيرة» هي في المآل النهائي محنة الحياة الراهنة ومأزقها الحاد: «الأرقُ يصقلُ القناديلَ/ يفلِقُ الفجرَ/ ويمتصُّ الندى /من حجرِ النوم». تجربة أحمد الملاّ الشعرية الجديدة تنفتح على ولع بالكتابة الحرة، أعني بذلك الخروج على مألوف القصيدة ومفاهيمها وعاداتها التي باتت تقليدية أو أقرب للتقليدية، ففي «كتبتنا البنات» تمتزج حرائق اللوعة الذاتية ببنائيات شعرية تقوم على أفق مفتوح على المخيلة الخصبة، حيث القصيدة تختزن وهجها الخاص وحرقتها الخاصة. تجربة بقدر ما تنتمي للشعر السعودي الجديد والأكثر حداثة، تنجح في القبض على خصوصياتها التي تفارق ذلك الشعر بل وتتمرد عليه على نحو جميل: «تنخزكِ عيونٌ / وترفعكِ رماحٌ إلى درجِ السماء/ هناك تعلقينها/ فينقشع غبارٌ وحوافر/ تنبتُ أحجارٌ/ تتنفّسُ أعرافٌ وسهول / ويرحل الغزاةُ/ مهتدين بها». هو الرهان على الشعر، ولأنه رهان على الجمالية يصبح بديهياً أن تتوغل القصيدة في شعاب المغامرة بالاتجاهين، أي في المضمون حيث استقصاء الألم ومطاردة المعاني في حالاتها الشائكة، ثم أيضاً في بناء القصيدة على نحو فني يستجيب لذلك التوغل ويمنحه صورته الحارة. أحمد الملاّ في هذه المجموعة الجميلة يتجاوز أفقه الشعري السابق ويخطو بثقة نحو علاقة أكثر جمالية مع القصيدة من جهة ومع قارئ الشعر من جهة أخرى، وهو يفعل ذلك بأناة وصبر، فقصائد مجموعته هذه تنحو عموما نحو لغة شعرية هادئة تخلو من أي ادعاء أو صخب، وهي بذلك تبني ذاتها وتؤسس كيانها الفني ببريق هادئ يتحقق بما أشرنا إليه في مطلع هذه القراءة، أي بالاعتماد على القصيدة المشهد. «كتبتنا البنات» مرايا الروح الفردية والعوالم الواقعية معاً، وهي مجموعة شعرية تراهن على رؤية الألم في حالاتها الأشد جمالاً.