الشاعرة السورية لبنى ياسين تكتب قصيدتها وتبدو في آن شغوفة بفنها «الآخر» التشكيل الذي يرافق الشعر ويقتسم معه حلمها وتجربتها. لبنى «ترسم» في سطور شعرها في شغف واضح بالصورة التي نراها- غالباً - حسية، وذات خطوط وظلال. في مجموعتها الشعرية الجديدة «تراتيل الناي والشغف» تبدو لبنى ياسين عاشقة تذهب نحو مرايا العشق لتحدق فيها طويلاً وعميقاً، ولتأتينا من غور تلك المرايا بقصائد بوح فيها الكثير من ولع بالحسي في تجلياته الخجولة مرة والجريئة إلى حد ما مرات أخرى : «أتوجس فيك فرحاً /يتسلقني على متن لون فاسق لا يلملم سوأته في حضرة الشمس». في قصائد المجموعة تبدو الشاعرة وكأنها ترغب في قول كل الأشياء في نص واحد، فالقصيدة تحمل «خطوط» سرد لا تحصى تتنقل بينها فنكاد في ازدحامها نلهث في متابعتها. مع ذلك فشأن هذه القصائد الجديدة أن ترسم موضوعات وأفكار تقع في الحيز الذاتي البالغ الفردية وإن يكن يلامس الحدث الواقعي أحياناً لمساً ناعماً يشفُ عن اعتناء الشاعرة بالهاجس أكثر من اعتنائها بأي «تأريخ» كان يمكن أن يثقل الشعر. في هذا السياق بالذات تقترب لبنى ياسين أكثر من غنائيتها الخاصة المحمولة على ولع بوهج الذاكرة ورغبة حميمة في استحضارها واستنطاق مخزونها. الكتابة الشعرية في «تراتيل الناي والشغف» تنتمي أيضاً إلى عنوان المجموعة الذي يأتي كعنوان للمناخ الشعري في كل قصائد المجموعة والذي مثلما يوحي بالموسقة يأخذنا أيضاً نحو هواجس الروح الأنثوية وفضاءاتها التي تكتنز رؤى وأحلاماً فيها الكثير من الظلال: «ينشطر غيابك على حد وجعي/أنحت من ملامح شطره الأول/تراتيل الناي والشغف/ومن الشطر الآخر إيقونة لون/لا يمكن تشكيله مرتين «. هنا بالذات نلحظ لغة شعرية لا تتكلف، فهي تتوغل في سردياتها الشعرية أمينة للسبك البسيط في كلماته وجمله ولكن المراوغ في فنيته الى الحد الذي يجعل قصيدة لبنى ياسين عزفاً منفرداً على نغمة وحيدة بتلاوين متعددة، تأخذ جمالياتها من إتكائها على الصور الشعرية التي تأتينا متلاحقة ومغزولة بروح تجمع بين الخيال والفكرة. هي قصائد شاعرة تنتبه للعلاقة الوشيجة بين المخيّلة والأسى العميق فتنطلق للتعبير عنه وتتوغل في استقصاء تفاصيله وجزئياته. «تراتيل الناي والشغف» هي تراتيل امرأة شاعرة في حضرة العشق والجمال لكنها في الوقت ذاته تجريب شعري يتكيء بالذات على التأويل: لبنى ياسين في هذا الكتاب الشعري الجديد تحاور أفكارها بلغة «مناورة» و»مراوغة»، لغة تبتغي الاحتمالات كلها وتكتسب جمالياتها من تعدّد تلك الاحتمالات وحتى من اختلافها. سأقول هنا إن قصيدة لبنى ياسين لا تكاد تكتمل إلا لكي تنفر من اكتمالها نحو أفق آخر مغاير لا بد له من قارىء يرى ويسمع أفكار مخيلته وذائقته بين السطور:»رغيفي قلبي/ فاْمضغ رويداً / تمهلْ، فثوبُ الوجع فضفاضٌ/عندما يكون/الجسد نحيلاً / لكن بوسعه دائماً /أن يغلق الأزرار/ليغدو كفناً». تبدو القصائد في هذه المجوعة وقد اكتست بظلال حزن كثيفة نراها ابنة الحياة الراهنة وتعقيداتها، ولعلَها بذلك الحزن تستبطن أملاً ما، يلوح بين وقت وآخر من سطورها. لبنى ياسين تكتب حزنها الفردي في التصاق بالحزن العام ولكنها تختار أن تراه بحدقتَي إمرأة شاعرة تتجولان وتبحثان ولا تنسى أن تمزج ذلك كله بروحها ومخيلتها وذاكرتها معاً. «تراتيل الناي والشغف» كتاب يمتحن الجمال فيحقق تجربة تستحق التحيّة.