قد يكون ازدياد التطرّف المسلح في صفوف المعارضة السورية حافزاً لمواقف جديدة نوعياً لجميع اللاعبين والمؤثرين في سورية وفرصة أخرى أمام القوى الدولية والإقليمية لتصحيح مسارات خاطئة أو لاستدراك انماط الإفراط داخل الولاياتالمتحدة، بدأ النقاش حول الدور الذي يجب على الرئيس باراك أوباما ان يلعبه الآن كي يتجنب الندم لاحقاً على المساعدة في تطوير قدرات التطرف الإسلامي داخل سورية وعالمياً كأمر واقع سهواً وليس كسياسة عمداً. داخل الصين، تظهر معالم القلق من عواقب التحالف الاستراتيجي مع روسيا على الساحة السورية الميدانية الذي جعل من المماطلة سياسة أسفرت عن عسكرة المعارضة السورية وفسح المجال لتقوية التطرف الإسلامي المسلح داخل سورية واستعادته النفس عالمياً. روسيا بدأت تدرك، من دون أن تعترف، ان مخاوفها من صعود الإسلاميين الى السلطة باتت كابوساً على صدرها بعدما أفشلت الجهود السياسية الديبلوماسية وحجبت عن نفسها دور عرّاب الحل السياسي وما يليه في سورية بعد انتهاء النظام. فهي التي ساهمت جذرياً في تغذية التطرف المسلح بعدما أحبطت المعارضة المدنية السورية. وهي التي عليها اليوم أن تخشى الكابوس الذي أنتجته والذي قد يهددها في عقر دارها. ولعل الجمهورية الإسلامية الإيرانية بدورها باتت قلقة من التغيير الذي طرأ على موازين القوى ميدانياً داخل سورية وبدأت تحسب حسابات إقليمية وداخلية أمام تطور حرب أهلية في سورية الى حروب طائفية في المنطقة. دول مجلس التعاون الخليجي وعلى رأسها المملكة العربية السعودية لا تريد لسورية أن تتحول منبراً لشبكة «القاعدة» وأمثالها مهما قدّمت من الدعم الى المعارضة المسلحة. فالرياض منذ زمن في حرب مع «القاعدة» وهي التي حاربت الإرهاب الإسلامي، ونجحت في عقر دارها. وهي، لربما، الثانية بعد الولاياتالمتحدة التي جنّدت قدراتها لمكافحة الإرهاب وإجهاض قدرات «القاعدة». هذه العوامل مجتمعة في الولاياتالمتحدة والصين وروسيا وإيران ودول مجلس التعاون الخليجي، وكذلك لدى دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) وتركيا، يجب أن تفتح باباً على جديد ضروري في الأزمة السورية، وهو: ضرورة لجم التطرف المسلح عبر تعزيز قوى الاعتدال على حساب قوى الإسلاميين مع المضي قدماً في العمل الجماعي نحو عملية انتقالية جدية في سورية قوامها انتهاء نظام البعث، ومغادرة الرئيس بشار الأسد السلطة، وبدء الاستعدادات لمرحلة ما بعد النزاع بدور حيوي للأمم المتحدة. ما يحدث في سورية الآن هو حقاًَ الحروب بالوكالة الى حد كبير، لكن ذلك لا ينفي ان السوريين هم الذين يخوضون هذه الحرب مهما دخلها حتى الآن من زمرة متجندين متطوعين لغاية لا علاقة لها بمستقبل الشعب السوري. أفغنة سورية باتت واقعاً الآن، بمعنى الحروب بالوكالة وتحوّل سورية الى ساحة انتقام لأمثال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يتخيّل نفسه زعيماً لدولة عظمى في عهد الحرب الباردة. «أفغنة» سورية، وليس «طلبنة» سورية – والفارق كبير. فلا يوجد في سورية «طالبان» ولا ملا عمر. سورية لن يحكمها أمثال «طالبان» لأن شعبها لن يسمح بذلك. فإذا دخلها الإسلام المتطرف الذي يتبنى الإرهاب عقيدة، فإنه في النهاية سيُخرَج منها قوياً الى أماكن أخرى – ربما تكون في داخل أو جيرة روسيا. ولا يمكن موسكو عندئذ أن تلوم إلاّ نفسها. لعل هذه الأمور تدور في فلك التفكير في روسيا ولعل ذلك يؤدي الى إعادة النظر وفسح المجال للاستدراك. فقد لا يكون الباب قد صُدَ كلياً أمام روسيا، إذا عدلت عن مواقفها. ولربما لم يفت الأوان إذا تعاظمت أمور عدة، من بينها مواقف إيرانية وصينية وخليجية وأميركية. إدارة أوباما تتبنى حالياً سياسة للتشجيع على دعم المعارضة بالإمكانيات العسكرية بعدما أسفر الفيتو المزدوج الثالث لروسيا والصين في مجلس الأمن الى تحويل المجلس الى هيئة لا صلة لها بالمسألة السورية. عندئذ استبدلت إدارة أوباما سياسة الإرضاء لروسيا والصين بسياسة العمل خارج بوتقة مجلس الأمن وليس من خلاله. الآن، هناك أصوات عدة تقدم النصائح لإدارة أوباما حول ما إذا كان عليها «القيادة من الوراء»، كما كتب الرئيس الشرفي لمجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، لزلي غلب حتى ال «دايلي بيست»، أو اتخاذ «مقعد قيادي على الطاولة»، كما كتب السفير الأميركي السابق لدى الأممالمتحدة زلماي خليل زاد. زلماي خليل زاد اقترح تشكيل «تحالف ذوي الصلة» ليضم الى جانب الولاياتالمتحدة دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا والأردن وبريطانيا وفرنسا يكون أحد أهم بنود أعماله منع التطرف من الاستيلاء على سورية وذلك من خلال العمل الجدي لتعزيز عناصر الاعتدال والحداثة والعلمنة. اقترح أن يعيّن أوباما مبعوثاً أميركياً لضمان مرحلة انتقالية مستقرة في سورية تجنباً لتكرار ما حدث في العراق من فوضى وانتقام – وخليل زاد يعرف العراق لأنه مثّل بلاده فيه في تلك الحقبة. الأممالمتحدة وجامعة الدول العربية تبحثان عن مبعوث بديل لكوفي أنان الذي أسقطه الفيتو الروسي – الصيني وقدّم استقالته الأسبوع الماضي. المبعوث الجديد ستكون له مهام مختلفة وقدرات للتفاوض بحسم وجزم وليس على أساس اقتناع هنا أو تنازل هناك في تحريك مستمر للعلاقة. ما يبحث عنه بان كي مون وفريقه هو شخص قادر على مهام إدارية للمرحلة الانتقالية بعد النزاع الى جانب القدرة على تشجيع الاعتدال والحداثة. المبعوث الجديد سيشابه ما قام به السفير ووزير الخارجية السابق للجزائر الديبلوماسي المخضرم الأخضر الإبراهيمي في أفغانستان ما بعد «طالبان». الفارق ان الأممالمتحدةوالولاياتالمتحدة والدول العربية المعنية لا تريد «طلبنة» سورية وبالتالي ان الاستعدادات هي لخريطة انتقالية من «الافغنة» الى حكومة انتقالية وانتخابات ودستور جديد. المهم ألا يسعى المبعوث الجديد ان يكون مهندس العلاقات الدولية انما ان يركز جهوده على سورية. تراكم وازدحام المطالب الروسية الثنائية من الولاياتالمتحدة وفي إطار موقعها في أوروبا والشرق الأوسط لربما أدى الى خسارتها الأوراق المهمة لديها. انها الآن، عملياً، في مواجهة مع حلف شمال الأطلسي ومع مجلس التعاون الخليجي. الصين قد لا ترغب ان تكون طرفاً في المواجهة، مهما كانت العلاقة بينها وبين روسيا تحالفاً استراتيجياً. فهذا التحالف يلبي مصلحة البلدين لو انحصر في مجلس الأمن. انما الصين قد لا ترغب في ان تكون طرفاً في مواجهة حرب باردة فاشلة على أي حال نظراً لنوعية التحالف ومع أية جهة في تأجيج للرأي العام وللتطرف الإسلامي المسلح. الآن، وبعدما أصبح مجلس الأمن هيئة ضائعة محيَّدة لا علاقة له بالمسألة السورية، هدرت الصين وروسيا أهم أدواتهما للتأثير في الديبلوماسية وفي النظام الإقليمي الجديد. حتى الآن، مضت الصين بقليل من المحاسبة على الفيتو الثالث لأنها أخذت المقعد الخلفي لروسيا ولأنها لم تدخل طرفاً ميدانياً يمد السلاح الى النظام في دمشق. حاولت أن تبدو أقل انحيازاً الى النظام من موسكو وتمسكت بمبدأ عدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية عذراً. واقع الأمر ان كلاً من الصين وروسيا استخدمت مجلس الأمن من أجل المصالح الخاصة ومعادلة المقايضة بينهما وليس في إطار الواجبات ومسؤوليات الدولة التي لها حق الفيتو. وبالتأكيد، ان تاريخ الولاياتالمتحدة حافل بأمثلة عدة مشابهة. هذا لا يعفي من المسؤولية ولا من المحاسبة. أحد مبررات المواقف الصينية – كما الروسية – كان الخوف من انعكاس صعود الإسلاميين الى السلطة ما بعد «اليقظة العربية» على الأقليات الإسلامية داخل الصين وعلى الجمهوريات الإسلامية الخمس التي تطوق روسيا، الى جانب الشيشان. لكن مواقف البلدين داخل مجلس الامن ساهمت جذرياً في تقوية التطرف الإسلامي، وأدت الى برود وفتور في العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي – الدول النفطية وتلك ذات المواقع الاستراتيجية. الاستدراك ممكن الآن عبر صفقة مع الغرب والعرب قوامها دعم الاعتدال وقطع الطريق على التطرف المسلح – ومرة أخرى، هذا ممكن فقط عبر تغيير سلمي في دمشق وبدء عملية الانتقال السياسي من النظام الحالي الى نظام جديد. الصين قد ترغب في ذلك نظراً للأوضاع على الأرض وفي إطار موازين القوى الإقليمية والدولية. ولقد حان للصين أن تتخذ خطوة نوعية في لعبة الشطرنج، ليس عبر فك تحالفها الاستراتيجي مع روسيا، وانما عبر استخدام نفوذها مع فلاديمير بوتين ليعدّل مواقفه وعبر اتخاذها موقفها حازماً مع النظام في دمشق. هذا يتطلب من الصين، كما من روسيا، اقتلاع خوفهما من انتقال عدوى «اليقظة العربية» الى عقر داريهما – والأمر ليس سهلاً الا إذا استنتجتا ان انتقال عدوى التطرف الإسلامي الى جيرتهما يشكل مصيراً أسوأ. يبقى ان الجمهورية الإسلامية الإيرانية قد ترى أيضاً ان مصلحتها تقتضي إعادة النظر في سياساتها وأفعالها داخل سورية. لعلها أيضاً تستنتج ان الهستيريا ليست سياسة عاقلة وان التقليد الإيراني هو السياسة القائمة على الحذر والحكمة. ولعلها تقرر ان من الأفضل قطع الطريق جماعياً على التطرف السنّي من خلال تفاهمات إقليمية مع القوى الكبرى في المنطقة العربية بحيث تكف طهران عن سياسة الهيمنة الإقليمية فتقتلع نفسها من فكّي التطويق والعقوبات العازلة وتتخذ مكانها الطبيعي في المنطقة بقدر حجمها ومكانتها داخل حدودها. هناك مؤشرات مشجعة، لكنها، خطوة صغيرة لم تبدد الشكوك بعد. ما عدا ذلك سيؤدي الى حروب متعددة في المنطقة تتعدى سورية. لبنان معرّض لإمكانية عملية عسكرية توغلية لإسرائيل للقضاء على البنية التحتية ل «حزب الله»، إذا ما اندلعت حرب بينه وبين إسرائيل. وطهران قد لا ترى ذلك في مصلحتها، والرسائل المبطنة تفيد باستعداد ما لإعادة النظر. أما إذا استمرت طهران في سياساتها، كما روسيا والصين والنظام في دمشق، فإن الانجرار الى حرب إقليمية مدمرة ليس أمراً مستبعداً. الآن، ما زال في الأفق أمل بالاستدراك وإن كانت الساعة بلغت الحادية عشرة قبيل فوات الأوان.