ناشئة الليل النبوي ... اتصال مباشر مع السماء إذا انتصَفَ الليلُ، أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم جلس يمسحُ النومَ عن وجهه بيده، وتناولَ سواكه فدلك به فمه الطَّيِّب المبارك، ثم رفع نظره إلى السماء، ينظر بتفكُّر في هدوء الليل وسكونه إلى عظمة الله في خلقه، وهو يتلو قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فقنا عذاب النار...} إلى آخر الآيات العشر من سورة آل عمران [190-200]، ثم يقوم إلى قِربة معلَّقة، فيُطلق رباطها، ويسكب الماءَ منها في قَدَحٍ عنده، ثم يتوضَّأ وُضوءاً مقتصِداً سَابغاً، ثم يلبس إزاره ورداءه ويخلع الخرقة التي كان يتَّزر بها، ثم يصلِّي صلاةَ الليل. وربما لهج لربه بالذكر والتسبيح والتعظيم قبل أن يبدأ صلاة التهجد، وكأن ذلك لمزيد التهيُّؤ والاستفتاح لقيام الليل، قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا هَبَّ منَ اللَّيل، كَبَّرَ عشراً، وحَمِدَ عَشْراً، وقال: «سبحانَ الله وبِحَمْدِهِ» عشراً، وقال: «سبحان المَلِك القدوس» عشراً، واستغفَرَ عشراً، وهلَّلَ عشراً، ثم قال: «اللهمَّ إنِّي أعوذ بك من ضيق الدنيا، وضيق يوم القيامة» عَشْراً، ثم يفتتحُ الصلاةَ. وكان يبتدئُ قيامَه بركعتين خفيفتين، وكما كان صلى الله عليه وآله وسلم أخفَّ الناس صلاةً إذا صلَّى بالناس، فقد كان أطولَهم صلاةً إذا صلَّى لنفسه، فصلاتُه في الليل أطول صلاته استفتاحاً وقراءة ودعاءً؛ امتثالاً لقول ربه: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل: 2]. والمتأمِّل لحاله صلى الله عليه وآله وسلم في تهجُّده، يستشعر أن صلاته بالليل صلاة مستغرقة، قد اجتمعت فيها كل مشاعره وأحاسيسه ونجواه، وكأنما عَرَجت روحه إلى الملأ الأعلى، وغشيته أنوار حجاب النور الإلهي؛ فهو ينظرُ إلى عرش ربه بارزاً، ويناجيه خالياً به، فحَمْدُه لربه أبلغ الحمد، وثناؤُه عليه أعظم الثناء، ودعاؤُه له أجمع الدعاء، ولا عجب؛ فهو الذي أُسري به حتى خُرِقت له السَّبع الطِّباق، وارتفع إلى مستوى يسمعُ فيه صَرِيف الأقلام. فكان أعلم الخلق بالله، وأكملهم إيماناً، وأصدقهم يقيناً، وقال، وصدَقَ وبرَّ: «إن أتقاكم وأعلمكم بالله لأنا». فإذا قام إلى صلاته استفتحها استفتاحَ المعظِّمِ لربه، المُحبِّ له والمُشتاق إليه، فاستفتاحُه جوامع التعظيم والحمد والثناء. فمن فواتح صلواته إذا قام من الليل: «اللهمَّ ربَّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطرَ السماوات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكمُ بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون، أهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي مَن تشاء إلى صراط مستقيم». ومنها: «اللهمَّ ربَّنا لك الحمدُ، أنت نُورُ السموات والأرض ومَن فيهنَّ، ولك الحمدُ، أنت قَيِّمُ السموات والأرض ومَن فيهنَّ، ولك الحمدُ، أنت مَلِكُ السموات والأرض ومَن فيهنَّ، ولك الحمدُ، أنت الحقُّ، ووعدك الحقُّ، ولقاؤُك حقٌّ، وقولُك حقٌّ، والجنة حقٌّ، والنار حقٌّ، والنبيون حقٌّ، ومحمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم حقٌّ، والساعة حقٌّ، اللهمَّ لك أسلمتُ، وبك آمنتُ، وعليك توكلتُ، وإليك أنبتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ، فاغفرْ لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ، وما أعلنتُ، وما أنت أعلمُ به منِّي، أنت المقدِّم، وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله». ومنها: «وجَّهتُ وجهي للذي فطرَ السماوات والأرض حنيفاً، وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونُسُكي ومَحْيَاي ومماتي لله ربِّ العالمين، لا شريكَ له، وبذلكَ أمرتُ، وأنا من المسلمين، اللهمَّ أنت الملِكُ، لا إله إلا أنت، أنت ربِّي وأنا عبدُك، ظلمتُ نفسي، واعترفتُ بذنبي، فاغفرْ لي ذنوبي جميعاً، إنه لا يغفرُ الذنوبَ إلَّا أنت، وأهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إِلَّا أنت، واصرفْ عنِّي سيِّئها، لا يصرفُ عنِّي سيِّئها إِلَّا أنت، لبيك وسعديك، والخيرُ كلُّه في يديك، والشرُّ ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركتَ وتعاليتَ، أستغفرك وأتوبُ إليك». ثم إذا قرأ فإنه يقرأ قراءة مترسِّلة مرتَّلة، لا يمرُّ بآية رحمة إِلَّا سأل، ولا آية عذاب إلا استعاذ، ولا آية تسبيح إلا سبَّح.