هل نحن بعدَ الثورات التي اندلعت في كل من تونس ومصر وليبيا، وامتد من بعدُ لهيبُها إلى اليمن وسورية، نعيش عصر الربيع العربي، أم أن رياح خريف الثورة المضادة قد هبت كالعاصفة وقضت على أيام الربيع المزهرة التي رقصت على أنغامها الشعوب التواقة للانعتاق من أسر الاستبداد، والحالمة بالعبور إلى آفاق ديموقراطية بلا ضفاف؟ يمكن القول إن التطورات الدرامية في تونس ومصر وليبيا والتي أعقبت الانتفاضات الجماهيرية، والتي لم تتحول في الحقيقة إلى ثورات بالمعنى الحقيقي للكلمة، جعلت بعض الباحثين النقديين يذهبون إلى القول إن هذه الانتفاضات الثورية أفسحت الطريق في الواقع لقيام ثورة مضادة، تتمثل في زحف التيارات الدينية، وفي مقدمها «الإخوان المسلمون» والتيارات السلفية، لتحتل صدارة المشهد. والمشكلة الحقيقية أن هذه التيارات الدينية «الإخوانية» والسلفية لم تتصدر المشهد بانقلاب عسكري أو سياسي، بل إنها تقدمت الصفوف وفق قواعد الديموقراطية التقليدية التي تعتمد نتائج صناديق الاقتراع، بفرض أن الانتخابات جرت بصورة نزيهة وشفافة ولا تزوير فيها. أليس هذا ما حدث في مصر بعد ثورة 25 يناير؟ ولأن الانتفاضة الثورية المصرية لم تكن لها قيادة، لكونها تمت نتيجة التشبيك في الفضاء المعلوماتي، ولم تكن لديها أيديولوجية متماسكة أو رؤية سياسية متكاملة، وإنما مجموعة شعارات تنادي بالحرية والعيش الكريم والعدالة الاجتماعية، فقد استطاعت القوى السياسية التقليدية، وفي مقدمها جماعة «الإخوان المسلمين» والتيار السلفي، أن تقفز أولاً على قطار الثورة المندفع وتزيح من طريقها الائتلافات الثورية التي انقسمت على نفسها وتشرذمت، وكذلك القوى الليبرالية واليسارية المفتتة، وثانياً أن تنجح في الانتخابات وأن تحوز على الأكثرية في مجلسي الشعب والشورى. ومنذ هذه اللحظة، بدأت جماعة «الإخوان المسلمين» في تطبيق مخططها الاستراتيجي الذي رافقها منذ نشأتها، والذي يتمثل في الانقلاب ضد الدول العربية المدنية العلمانية، سواء بالعنف أو بالإرهاب، أو من خلال الانتخابات الديموقراطية، كما حدث مؤخراً في مصر وتونس. واكتملت الصورة في مصر بنجاح جماعة «الإخوان المسلمين» في إيصال مرشحها الاحتياطي الدكتور محمد مرسي في انتخابات رئاسة الجمهورية، والذي توج مؤخراً باعتباره أول رئيس جمهورية مصري مدني منتخب. وبعد صدور قرار المحكمة الدستورية العليا ببطلان انتخاب مجلس الشعب وحله، فليس هناك نظرياً ما يحول دون نجاح جماعة «الإخوان المسلمين» والسلفيين في الحصول مرة أخرى على الأكثرية في الانتخابات النيابية القادمة لمجلسي الشعب والشورى، والتي ستجري بعد وضع الدستور المصري والاستفتاء عليه. إذا تحقق هذا السيناريو، فمعنى ذلك أن جماعة «الإخوان» مع حليفها حزب «النور» السلفي سيسيطران على السلطة الاشتراعية، وفي ظل رئاسة الدكتور محمد مرسي «الإخواني» سيسيطران أيضاً على السلطة التنفيذية، لأنهما هما اللذان سيشكلان الوزارة. ومعنى ذلك إتاحة الفرصة كاملة أمام جماعة «الإخوان المسلمين» لتحقيق مشروعها الاستراتيجي، والذي يتمثل في «أخونة الدولة وأسلمة المجتمع». أما «أخونة الدولة» فمعناها تصفية كل مؤسسات الدولة المصرية من خصومها ومن الكوادر التي لا تتبعها، وزرع كوادرها في كل المؤسسات، والنفاذ على وجه الخصوص إلى مؤسسة الشرطة والقضاء والقوات المسلحة أخيراً. وهكذا يتم تحويل الدولة المدنية المصرية إلى دولة دينية، في سياق يصرح فيه المرشد العام ل «الإخوان المسلمين» الدكتور محمد بديع بأن حلم الشيخ حسن البنا مؤسس الجماعة منذ أكثر من ثمانين عاماً قارب التحقق، وهو إعادة الخلافة الإسلامية مرة أخرى وتحويل مصر إلى مجرد ولاية إسلامية من ضمن الولايات التي سيرأسها الخليفة! ولو ولينا وجوهنا إلى تونس، حيث فاز حزب «النهضة» الذي يرأسه راشد الغنوشي بالأغلبية في انتخابات المجلس الانتقالي، فهناك شواهد على وجود مخطط لهذا الحزب لإحلال ألفي كادر من أعضائه ليحلوا محل القيادات الإدارية الأساسية في الدولة التونسية. ومعنى ذلك ببساطة البدء في «أخونة» الدولة التونسية، ونزع الرداء التحديثي الذي ألبسها إياه الزعيم الحبيب بورقيبه، والذي كان من دعاة الحداثة والانفتاح الحضاري. وإذا تابعنا محاولات التيار السلفي التونسي «أسلمة» المجتمع التونسي بالقوة بعد الصدامات التي حدثت بين أعضائه وقوى الأمن، لأدركنا أن الصورة التونسية ليست أفضل بكثير من الصورة المصرية. وإذا كانت ليبيا تمثل استثناء في هذا الخصوص، لأن التيار الليبرالي حصل على الأغلبية في الانتخابات على حساب «الإخوان المسلمين»، فليس هناك أي ضمان في عدم قدرة التيار الديني على السيطرة السياسية. إذا كانت ملامح هذا المشهد السياسي التي رسمناها بناء على الوقائع والأحداث السياسية والاجتماعية التي حدثت في تونس ومصر وليبيا صحيحة، ألا يعني هذا أن ثورات الربيع العربي تحولت في الواقع لتصبح خريفاً للثورة المضادة الإسلامية التي تحاول حصار المجتمعات العربية بأفكارها الدينية المتشددة في سياق خيالي تحلم فيه باستعادة الفردوس المفقود، ونعني إحياء نظام الخلافة الإسلامية من جديد في عالم انتهت فيه إلى الأبد نماذج الدول الدينية؟ ويمكن القول إن النتائج المخيبة للآمال لكل من الانتفاضة الثورية في تونس ومصر تحتاج إلى تحليل ثقافي متعمق. وقد يكون العنوان الرئيسي لهذا التحليل هو فشل المجتمعات العربية المختلفة في المشرق والمغرب والخليج في اجتياز اختيارات الحداثة السياسية والفكرية والاقتصادية التي عرفها الغرب منذ قرون، وكانت هي السبب الرئيسي في تقدمه الشامل اليوم. وإذا أردنا أن نوجز مضمون الحداثة السياسية في كلمة واحدة، لقلنا إنها تطبيق الديموقراطية كنظام سياسي، بعد القضاء على النظم السياسية الاستبدادية. وإذا كانت الديموقراطية ليست لها نظرية مصوغة بصورة صورية محكمة، إلا أن المثاليات الديموقراطية والتي تمت ممارستها بالفعل، معروفة جيداً، وعلى رأسها احترام حرية التفكير وحرية التعبير وقبول التعددية السياسية بكل صورها، والانطلاق من مبدأ رئيسي هو تكريس مبدأ تداول السلطة، بحيث لا يبقى رئيس جمهورية إلى الأبد، والاعتماد على الانتخابات التعددية النزيهة، سواء بالنسبة الى المجالس النيابية أو رئاسة الجمهورية في النظم الجمهورية. وباختصار شديد، يمكن القول إن البلاد العربية حتى بعد أن تحررت من نير الاستعمار لم تستطع الوصول إلى آفاق الديموقراطية، لأنها عاشت في ظل نظم شمولية وسلطوية قمعية. أما الحداثة الفكرية، فتقوم على مبدأ رئيسي هو أن «العقل وليس النص الديني هو محك الحكم على الأشياء». وفي ضوء هذه الحداثة، تحرر العقل الغربي وانطلق في الآفاق يبدع ويبتكر ويلتمس الحلول الأصيلة لمشكلات الإنسان. وتبقى أخيراً الحداثة الاقتصادية، والتي تتطلب التطوير الجذري لقوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، من خلال تدريب القوى البشرية، والاعتماد على التكنولوجيا، وتوازن العلاقات بين الرأسماليين والعمال. ولو نظرنا نظرة شاملة الى المجتمع العربي لوصلنا إلى نتيجة مهمة مؤداها أنه فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق الحداثات الثلاث! ولذلك ليس غريباً أن يكون شعار خريف الثورة المضادة «أن الدين أياً كان تفسيره، وليس العقل، هو محك الحكم على الأشياء»! بعبارة أخرى نحن نعود إلى الوراء، في الوقت الذي يتقدم فيه العالم إلى الأمام! * كاتب مصري