حصل تصعيد عسكري على خطوط المواجهة بين أذربيجان وقره باخ، وكذلك مع أرمينيا. وبحسب وزارة الدفاع الأذربيجانية، لقي 13 جندياً أذربيجانياً مصرعهم في الأيام القليلة الماضية خلال العمليات العسكرية، في حين أقرت مصادر رسمية أرمنية بمقتل 5 عناصر من قواتها. وهذه الاشتباكات هي الأعنف منذ أيار (مايو) 1994، الذي أبرِمَ خلاله وقف إطلاق نار بين الجهات الثلاث، وضع حدّاً لحرب قره باخ، التي كانت بدأت في أواخر الحقبة السوفياتية، بعد أن قرّرت الغالبيّة الأرمنية التي تحظى باستقلال ذاتي في قره باخ، المطالبة بانفصالها عن أرمينيا السوفياتية في 21 شباط (فبراير) 1988، ولم تكتفِ القيادتان السوفياتية والأذربيجانية برفض هذا المطلب، بل حاولتا أيضاً قمع التعبئة الشعبية عبر الدماء، فارتُكِبَت سلسلة مذابح بحق الأرمن في مدن أذربيجان. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي، خاض الطرفان حرباً لم تقتصر نتائجها على سيطرة قوات قره باخ الأرمنية، على كامل منطقة قره باخ، بدعم من الدولة الأرمنيّة، فهي احتلّت أيضاً سبعة أقاليم مجاورة في أذربيجان. وأدّت الحرب إلى مقتل 35 ألف نسمة وإلى تشريد نحو مليون آخرين من الطرفين. على رغم صعوبة تحديد الجهة المسؤولة عن الهجمات العسكرية الأخيرة، تشير الأدلة على نطاق أوسع أنّها جاءت بنتيجة تصعيد من الطرف الأذربيجاني، كون هذا الأخير يخدم الأهداف السياسية الأذربيجانية. وبعد سنوات من المفاوضات في عهد الرئيس الأذربيجاني الأسبق حيدر علييف، اتخذ ابنه وخلفه إلهام علييف موقفاً ميالاً للقتال في مسألة قره باخ، وقد ارتبط موقفه هذا عموماً بإنجاز خط أنابيب باكو-جيهان في عام 2005، القادر على نقل مليون برميل من النفط يومياً. ومنذ ذلك الحين، تعاظمت موازنة الدولة الأذربيجانية، وارتفع إنفاقها العسكري من 175 مليون دولار في 2003 إلى أكثر من 3.6 بليون دولار في 2013. وفي هذا السياق، لا ينفكّ القادة الأذربيجانيون يكرّرون أن موازنتهم العسكرية تضاهي مجمل موازنة الحكومة الأرمنيّة. بالتوازي مع الارتفاع الحاد في الإنفاق العسكري، بات الموقف الأذربيجاني أكثر تصلّباً، وسُجّل تفاقم في الأحداث العسكرية على جبهة قره باخ وعلى امتداد الحدود بين أرمينياوأذربيجان. هجوم على المعارضة تزامن أحدث تصعيد عسكري على الجبهات الحربيّة مع هجوم جماعيّ شنّته السلطات الأذربيجانية على أصحاب الفكر المستقل من خبراء سياسيين، ومدافعين عن حقوق الإنسان وعاملين في المنظمات غير الحكومية. وكان آخر اسم ورد على القائمة الطويلة هو اسم عارف يونسوف، عالم الاجتماع المتخصص في الهجرة وشؤون اللاجئين والإسلام وغيرها من المواضيع. وتعرّض يونسوف للاعتقال في 5 آب (أغسطس) بتهمة التعاون «مع ممثلين عن أجهزة الخدمات الخاصة الأرمنية»، علماً بأنّ زوجته ليلى يونسوفا، الناشطة في مجال حقوق الإنسان، كانت اعتُقلت قبله بأيام، بعد اتّهامها بالأمر عينه، في تذكير بذروة عهد جوزيف ستالين. وكذلك، ألقت السلطات القبض، في الثاني من آب، على ناشط آخر في مجال حقوق الإنسان، وهو رسول جعفروف البالغ من العمر 29 سنة، بتهم «التهرّب الضريبي، وإقامة المشاريع غير الشرعية واستغلال السلطة». وفي هذا السياق، سلّط علي حسنوف، مستشار الرئيس الأذربيجاني، الضوء على العلاقة القائمة بين الاعتقالات وبين تصعيد النزاع، فاعتبر اعتقال ليلى يونسوفا مرتبطاً بالمجموعات الأرمنية، وأفاد قائلاً: «اتّضح وجود مجموعة مخالفة لمصلحة الوطن داخل أذربيجان، تديرها قوى خارجية وربّما تقيم علاقات مع مجموعة الضغط الأرمنية». بدأت الاعتقالات الجماعية التي طاولت شخصيات، وصحافيين وناشطين في مجال حقوق الإنسان ينتمون إلى المعارضة، مطلع العام الحالي، بالتوازي مع التصعيد على خطّ القتال الأمامي. وفي إطار متّصل، أوقف توفيق يعقوبلو، نائب رئيس حزب «المساواة»، أحد أهم الأحزاب المعارضة، في آذار (مارس) الفائت, وحُكم عليه بالسجن لمدّة 7 سنوات. وفي نيسان (أبريل) الماضي، أوقفت السلطات التركية رؤوف مير قادروف، وهو صحافي وكاتب أذربيجاني كان يعيش في تركيا، وقرّرت ترحيله إلى باكو، حيث اعتُقل وسُجن فور وصوله. وفي تموز (يوليو)، حُكم على حسن حسينلي، وهو ناشط آخر في مجال حقوق الإنسان ومرشد من مدينة غنجة، بالسجن لمدة 6 سنوات بتهمة التهجّم على رجل «وطعنه». والغريب أن أذربيجان ترأس حالياً – ما بين أيار (مايو) وتشرين الثاني (نوفمبر) 2014 – «مجلس أوروبا»، المؤسسة الأوروبية التي تتولى شؤون الديموقراطية وحقوق الإنسان، ما يحث على الاعتقاد أن المنظمات السياسية الدولية تتحلى بحس فكاهة يذكّر بذاك السائد في مسرحيات صمويل بيكيت العبثيّة. اتخذت عمليات الاعتقال والترهيب بحقّ المفكرين الأحرار في أذربيجان بعداً جماعياً في الأشهر الأخيرة، فما عاد ترهيباً انتقائياً هدفه بثّ الخوف في النفوس وفرض رقابة ذاتية على أفراد المجتمع، بل تهدف موجة القمع الحالية إلى تدمير قدرة المجتمع الأذربيجاني المستقلّة على التفكير بطريقة نقديّة. تتهم أذربيجان الجانب الأرمني بالتحوّل إلى لعبة بين أيادي الكرملين. إلاّ أنّ باكو بذلت المستحيل، من خلال سياساتها، لإبقاء تبعيّة أرمينيالروسيا على حالها. وعلى سبيل المثال، عندما اقترحت تركيا على أرمينيا، في عام 2008، إحداث تقارب هدفه وضع حدّ لحصارها، وفتح الحدود المشتركة وإقامة علاقات ديبلوماسية، كان فشل الخطوة الديبلوماسيّة التركيّة ناتجاً من المعارضة الشديدة التي أظهرها المسؤولون الأذربيجانيون. وخلال السنة الماضية، ومع طرح الاتحاد الأوروبي مشروع شراكة على أرمينيا، عمدت باكو إلى استقبال بوتين، الذي منح أذربيجان عقود أسلحة بقيمة 4 بلايين دولار، في دليل واضح على غضب الرئيس الروسي واستعداده لترجيح كفة الميزان العسكري لمصلحة أذربيجان، وقد نجح هذا الأخير في منع انضمام أرمينيا إلى المشروع الأوروبي، مع الإشارة إلى أنّ أي تقارب أرمنيّ من تركيا أو «الاتحاد الأوروبي» سيحدّ من تبعية أرمينيا إلى روسيا. «الربيع العربي» بيد أن هدف نظام علييف من التصعيد العسكري يبقى داخلياً. وعلى رغم خطابها الميال للقتال، تتعرض الإدارة الأذربيجانية لضغوط شبيهة بتلك التي فجرها الربيع العربي. لقد استلم إلهام علييف السلطة في عام 2003، وحوّل جمهورية سابقة إلى حكم وراثيّ – علماً بأنّ التجربة الوحيدة الناجحة في هذا الإطار هي التجربة السوريّة قبل ثلاث سنوات، حين خلف بشار الأسد والده حافظ، والجدير ذكره أنّ النظام الأذربيجاني يحاكي ببنيته النظام السوري، فيتألّف من مجموعة فرعية محددة هي «عشيرة نخجوان» – وعلى رغم التماسك السائد فيها، فهو لا يضاهي حتّى واقع العشيرة الحاكمة في سورية. أذربيجان تختبر ارتفاعاً حاداً في عدد سكّانها، وبطالة الشبّان فيها تثير مشكلة حقيقية، كما أن عائدات النفط تسجل انخفاضاً، ما ينذر بمرحلة من الاضطرابات المقبلة. ويتجلّى مدى الاستياء للعيان في كثرة عدد الجهاديين الأذربيجانيين الذين قرروا الالتحاق بصفوف تنظيم «داعش» للقتال في سورية والعراق، في ظاهرة تُعتَبر جديدة. ومنذ عقد من الزمن، كانت ساحات المعارك في الشيشان أو العراق شبه خالية من المقاتلين الأذريين. إلا أن عدد الأذربيجانيين المقاتلين تجاوز المائتين في عام 2013، وقد لقي 30 منهم مصرعهم في سورية وحدها، مع تشكّل مجموعات جهادية مقاتلة ضد الجيش السوري. وفي هذا السياق، تنتقل عائلات بأسرها، مع عدد كبير من الأطفال فيها، إلى جبهات القتال في الشرق الأوسط، بحسب ما كشفته أشرطة مصورة منتشرة على مواقع شبكة الإنترنت. بالتوازي مع بروز تيار سلفي-جهادي في أذربيجان، تشهد البلاد احتداداً في المواجهات الطائفية. وأذربيجان تضمّ غالبية من الشيعة، الذين يشكّلون ثلثي عدد السكان تقريباً، إلى جانب أقلية سنية لطالما بقيت مهمّشة عبر التاريخ، وهي متحدّرة من المناطق الجبلية شمالي البلاد. يكشف تزايد القمع الداخلي الخوف السائد في إدارة علييف. ومع ذلك، فإنّ أفعال هذه الأخيرة قد ترتدّ ضدّها. واللافت أنّ الخطر الذي يهدّد استقرار أذربيجان ليس قادماً لا من أرمن قره باخ، ولا من المجتمع المدني الأذربيجاني. ومن خلال الهجوم على هذين الهدفين، سيسمح علييف بتعزيز التوجهات السلفية-الجهادية. ومع تدمير المجتمع المدني، سيجرّد الشعب الأذربيجاني من السلاح الذي يخوّله مواجهة الخطر الجديد الذي يهدده. وبالتالي، ومن خلال مواصلة الضغوط على قره باخ والعجز عن تحسين الأوضاع فيها، يعطي علييف الأصوليين ذريعة على طبق من الألماس لمواصلة هجومهم.