غالباً ما تشهد البطولات الرياضية الكبرى، مثل الأولمبياد، تحطيم أرقام قياسية، ما يعني زيادة قدرة الإنسان على تحقيق إنجاز يتعلّق بالجسم البشري. هل لتحطيم الأرقام القياسية حدود نهائية؟ ما هي المقوّمات والفوارق الفردية والسمات النفسية التي تميّز من يحطّم رقماً قياسياً عن غيره؟ الحافز الأولمبي يقول الدكتور مسعد عويس، نائب رئيس «المجلس الدولي للصحة والتربية البدنية والترويح»: «تمثّل الدورات الأولمبية حافزاً قوياً للاعبين لبذل المجهود وتحطيم الأرقام القياسية، إضافة إلى أنها تؤدي دوراً بارزاً في تطوّر الرياضة والعلوم المتّصلة بها، في مجالات تشمل التدريب ونُظم الغذاء والتجهيزات والملابس وأساليب الرعاية الطبية، إضافة إلى اختيار أماكن تسهّل التفوّق جسدّياً، كأن تكون في مناطق مرتفعة عن سطح البحر». ويضيف عويس أن تطوّر العلوم انعكس إيجاباً على تطوّر أداء الجسم البشري، لكن ضمن حدود هذا الجسم الذي يحتوي على 696 عضلة و206 عظمات و360 مفصلاً، تعمل في تناغم مرتفع أثناء الأداء الرياضي المتطوّر. ولاحظ عويس أن هذه الأعضاء لديها قدرات يمكن زيادتها مع التدريب والتغذية وتوافر الظروف الخارجية المواتية، ولكنها تظلّ في حدود قدراتها بشرياً. ويوضح: «نجد أن الفارق في الإنجاز في تحطيم الأرقام محدود. ففي سباق المئة متر، الفارق بين 9.77 ثانية وهو آخر رقم قياسي تم تسجيله وبين 10.06 ثانية، ضئيل جداً لا يتجاوز رمشة عين. ولكن تجاوز هذا الفارق الذي يبلغ تحديداً 0.29 من الثانية، تطلّب 93 عاماً. لا يمكن القول بأن سرعة الإنسان قد تسبق الصوت! في الوقت نفسه، يصعب وضع حدود لاستمرار الإنسان في تحطيم الأرقام القياسية في البطولات الأولمبية لأننا لا نستطيع التنبؤ بالقدرات البشرية على مستوى الإنجاز. وهناك دراسات تشير إلى أن تحطيم الأرقام وإعطاء أفضل نتائج يحدث في ظل توافر أفضل الإمكانات والعوامل. كل ما نستطيع فعله هو إعداد المزيد من الأبطال عبر توسيع قاعدة الممارسة الرياضية». في السياق نفسه، لاحظ الدكتور سيّد خشبة، عضو مجلس «الاتحاد الدولي للطب الرياضي» عن قارة إفريقيا، أن تحطيم الأرقام في الجري بات ينجز ضمن كسور من الثانية. وفي رفع الأثقال، تظهر الفوارق ضمن بضعة كيلوغرامات. هناك حدود لعمل أعضاء الجسم، إذ ينبض القلب من 70 إلى 90 مرّة في الدقيقة. ويرتفع هذا المعدل عند الرياضيين، كما يحدث تضخّم فسيولوجي في عضلة القلب نتيجة الزيادة في التدريب. ويصل معدل نبضات القلب الى 110 نبضة في الدقيقة. إذا زاد المعدل فوق هذا الرقم، يتوقّف القلب، ما يعني أن الاستمرار في تحطيم الأرقام القياسية رهن بطاقة أعضاء الجسم. وأوضح خشبة أن هناك ألعاباً مثل السباحة والجمباز وكرة القدم، لا بد من أن تبدأ ممارستها في سن صغيرة، كي يتاح للجهاز الحركي أن ينمو بطريقة تزيد من قدرة اللاعب على التفوق. وأكّد أن الوصول إلى أبطال قادرين على تحطيم الأرقام القياسية، أصبح صناعة لها مقومات كثيرة، تبدأ من أمٍ تتمتع بصحة جيدة جداً كي تنجب طفلاً صحيحاً ثم ترعاه وتغذيه في شكل سليم، ما يدعم أداء جسده مستقبلاً. الدماغ أولاً ويعرب الدكتور حسام الحسيني رئيس قسم جراحة المخ والأعصاب في كلية الطب في جامعة عين شمس، عن قناعته بأن تحطيم الأرقام القياسية يعتمد جزئياً على القوة العضلية للاعب، مشدّداً على الدور الكبير الذي يلعبه الدماغ، وهو مركز إدارة الجسم وعضلاته وحركاته كلها، إذ يعتبر الإنسان مجموعة مفاصل متحركة تتحكم بها مراكز متخصّصة في الدماغ، ويقول: «هناك اختبارات لتحديد الحركات التي يؤديها الرياضي، بهدف تحديد النتائج التي يستطيع اللاعب تحقيقها، وتحديد نقاط الضعف والقوة للتعامل معها للحصول على أفضل النتائج. ساعدت هذه التقنية في تحديد الحدود القصوى لقوة الرياضي العضلية. ومثلاً، أشارت بعض الدراسات إلى أن تسجيل زمن مقداره 9.6 ثانية في سباق المئة متر، ربما يشكّل الحد الذي لا يمكن تجاوزه. بعد هذا الوقت، تتمزّق العضلات، وتفرز مواد تدمر النسيج العضلي مع ما يغذّيه من أعصاب». ويرى الحسيني أن تحطيم الأرقام يأتي في سياق تطوّر البشر وتحسين الاستفادة من المخ وهو عضو فيه كثير من القدرات الكامنه التي «ربما تحتاج نصف قرن أو أكثر للكشف عنها، ما يعني أننا لا نستطيع الحديث الآن عما يحدث عند اكتشاف قدرات الدماغ الكاملة». وتفضّل الدكتورة هبة العيسوي، وهي أستاذة الطب النفسي في جامعة عين شمس، الحديث عن الحال النفسية التي تمكن من تحطيم الأرقام القياسية، مشيرة الى أن التفوّق رياضياً تسبقه مراحل متعددة، «إذا كنا نهتم بالتكوين الجسماني للبطل، فلنتذكّر أن بنيانه نفسياً يضارعه في الأهمية. لنقل إن السمات الشخصية والنفسية للبطل ليست وراثية ولا هي مجرد فروق فردية. الاحرى أنها سمات مُكتسبة، يعمل الاختصاصيون النفسيون في أطقم التدريب على تعليمها وتلقينها للرياضيين منذ المراحل المبكرة لممارسة الرياضة». وعدّدت العيسوي هذه السمات، مبتدئة بالصلابة حيال الشعور بالإحباط، بمعنى عدم اعتبار الخسارة مُبرّراً للإحباط. ويُسمّى هذا الأمر «ارتفاع عتبة الإحباط». وبيّنت ضرورة تكوين يقين داخلي لدى البطل، يتعزّز دوماً من المدرب والاختصاصي النفسي، بأنه البطل والأول دائماً، ما يساعده على بذل أقصى طاقة لديه. وتناولت أيضاً التوازن الانفعالي، بمعنى حدوث ردّ فعل طبيعي عن مواجهة الاخفاق، وعدم تغلب استثارة المخ الانفعالي على الدماغ العقلاني، وهو أمر يأتي بالتدريب النفسي. وقالت: «نجد أيضاً أن البطل تكون لديه سمات «وسواسية»، بمعنى الحرص على الدقة والمثالية في العمل إلى حد وسواسي، بحيث لا يكون هذا الأمر في الرياضة وحدها بل في شؤون الحياة كافة. يفترض بالبطل أيضاً أن تكون لديه مهارة في حل المشكلات في شكل سريع، لأنه معرّض لمواجهة مشاكل أثناء اللعب، يجب التصدي لها والتغلب عليها في شكل سريع جداً. يكوّن البطل استراتيجية واضحة لمقاومة الأزمات التي ربما تعرض لها أثناء المباريات، ما يزيد من قدرته على تحقيق الإنجازات القياسية». وأشارت العيسوي إلى أن البطل يسيطر عليه حلم الوقوف على منصة التتويج ورفع علم بلاده والترحاب الذي يلقاه عند عودته إلى وطنه، ويسمى ذلك «عيش لحظة ما بعد تحقيق الحلم»، معتبرة هذا الأمر حافزاً نفسياً مهماً يدفع اللاعبين إلى مزيد من العطاء. وأضافت العيسوي أن البطل لا يظهر في شكل فجائي، بل يربى منذ الطفولة، «يبدأ البطل ممارسة الجمباز والسباحة من عمر أربع سنوات، ما يصنع توافقاً عضلياً وعصبياً ونفسياً وجسمانياً للطفل. وبعدها، يتجه إلى ممارسة ألعاب أخرى تتوافق مع قدراته ورغباته. كما يجب تربية البطل على العمل ضمن فريق، حتى لو مارس لعبة فردية، لأن الإنجاز يحتاج إلى فريق يشمل اللاعب والمدرب والتغذية والأطقم الطبية وغيرها». وتشير العيسوى إلى أن الرياضة تكسب الإنسان صفات جيدة منها الشعور بالآخر والتعاطف معه، فالفائز يجب أن يشد على يد المهزوم، كما يهنّئ المهزوم الفائز، كي تكون الرياضة وسيلة للتقارب ما بين الناس. وترى أن الوصول إلى البطولة وتحطيم الأرقام، يضع البطل الرياضي في حال قلق مستمرة، خوفاً من الفشل، وعند الفوز، يظهر قلقاً من عدم الاستمرار في القمة. وهذا القلق يشكّل مدخلاً لإصابة الرياضيين بنوبات من الاكتئاب واضطراب المزاج، وهي من أهم المشاكل النفسية عند الرياضيين.