إن أجمل من يعرف بالقرآن الكريم هو القرآن نفسه. وحين يقول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)، فالآية تنقلنا لفهم وجداني عن القرآن الكريم. وهو ما تؤكده آية أخرى تبين لنا أن القرآن كتاب قلب. وهي قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ.وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ)، وهذا ما يستدعي الشعور عند قراءة القرآن وتلاوته وترتيله. وهكذا كان حال المنزل عليه . فقد روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود أنه قال: قال لي رسول الله : (اقرأ علي القرآن)، قلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال: (إني أشتهي أن أسمعه من غيري)، فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً)، فقال: (حسبك)، أي كفى، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان. فما الذي فهمه النبي عليه الصلاة والسلم مما أبكاه؟ هل كما يقول البعض إنه استحضر مشاهد القيامة ومجيء الأمم! ليس الأمر كذلك بل هو أعظم. إن النبي استشعر العظمة الإلهية في قوله (وجئنا بك) ولو اختصرت حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفكرة النبوة لقلت إنها "تعظيم الله". هذه المعاني الشعورية والحقائق الوجدانية هي التي تعطي البعد الروحي للآيات وهو جمال الاستدلال، فأحسن تفسير للآية هو حسن الاستشهاد بها. كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه في قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ). ليس الجفاف الروحي هو الذي يطلق معاني القرآن. فالجبال الشامخة تخشع لتنزله (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، وفي الآية دعوة للإنسان أن يشابه هذه الجبال القوية، والمؤمن قوي ، والخشوع قوة. إن القرآن في حالته الروحية العظمى حين يعرض القضايا الكبرى - التي غالباً ما يناقشها العقل الفقهي بشده - فإن القرآن يعرضها في حالة من الحب والرحمة واللطف. ففي ذكر الشرك (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ)، ولما يذكر الكفر يقول: (قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ)، بل إن الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة يناديهم: (أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، وحين يكون الكلام عن الردة، فإن علاجها القرآني بالحب الذي يحرك الشعور (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)، وهكذا فإن القراءة الوجدانية للقرآن الكريم ستتجلى عن أكبر المعاني، وستجعل الارتباط الإنساني بالقرآن ارتباطاً وجودياً. ومن هنا فإن الطريق إلى علم القرآن هو الرحمة. كما قال تعالى: (الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ). إنها حالة الوعي، والوعي سر الحياة الجميلة. [email protected] alduhaim@