لم يعد يذكر تمامًا ما الذي حدث له. بهتت ألوان ذاكرته التي سبقت ذاك التاريخ، وحلت مكانها ألوان أخرى أكثر وضوحًا، تتشابه مع بقعة الدم على قميصه، مع جدران المدينة وشوارعها، مع حواريها وأزقتها، مع وجوه أناسها وحركتهم التي كانت تشبه حركة الساعة الرملية، وصارت الآن لولبية في شكل لاهث. في ذاك النهار - حين سقط على الأرض - لم يكن خائفًا، كان يندفع بحماسة لم يعرفها في ذاته، يكرر الهتاف بأعلى صوته وسط مجموعات يلتقيهم حول هدف مشترك: الحرية، ونبذ الظلم والاستبداد. هو لم يفكر البتة أنه سيقف في الصفوف الأمامية، وأنه سيصاب في كتفه الأيسر، أنه سيركض في الميدان ويختبئ في مداخل العمارات، ويحاول الفرار من الرصاص، ومن الغاز المسيل للدموع، وأنه سيقاوم شعور الاختناق مرارًا، ويصمد في تحدٍ مثير. كان فرحًا باكتشاف نوع جديد من القوة لطالما شعر بأنه لا يمتلكه. ذاك اليوم كان فرصة صغيرة لإعادة تشكيل تقاطع غائب بينه وبين الوطن. بالنسبة له كانت العلاقة ضبابية جدًا مع وطن مجروف؛ بفعل سموم تبثها الجرذان على أرضه، فتعطي سوائل سوداء تنخر في التربة، في الشوارع، في النهر، في الأبنية، والمحال؛ تتسلل إلى كل شيء؛ فتحرقه، وتتصاعد أبخرتها إلى السماء فتصير سوداء. كان مقتنعاً بأن البلد ككل محاصر بتلوث لا جدوى من التفكير في إيجاد حل لإيقافه، وبأنه مفصول عن السماء بطبقة من الشحم تعزل الشمس وتمنع الضوء. لذا اعتاد أن يتقبل ضياعه في تلك المتاهة المعتمة، التي فقد فيها خيط البداية والنهاية، وصارت خطواته زلقة فوق سموم لزجة تلاحقه في كل مكان. لعل أكثر ما كان يؤلمه حينها غياب المعنى الحقيقي للأشياء الذي يعزز حالة الخنوع والفوضى، ويفرض منطق اللاتعاطف، هذا المنطق الذي شاهده مرارًا، يستبيح كل الحكايا البيضاء، ويتركها مشوهة. علمته بقعة الدم - التي سالت من كتفه - ماذا يعني أن يكون فاعلًا. يومها سحبته تلك المرأة إلى إحدى الخيام عند أطراف ميدان التحرير، ربطت جرحه بقطعة قماش ممزقة، آلمته محاولة شدها على الجرح كي تُوقف النزف، أكثر مما آلمه الجرح. لم تكن تلك المرأة تشبه أمه، ورغم هذا غمره نحوها حس أمومي فاق توقعه، كانت طويلة، وضخمة، حنطية اللون، ترتدي جلبابًا أسود وتلف رأسها بمنديل أسود، وتناديه: «يا ابني». مددته على أرض الخيمة، كما لو أنه ابنها حقاً، وواصلت ربط الجرح وهي تصرخ بالدعاء على الظالمين. ستحكي له في ما بعد أنها ظلت على مدار عشرة أعوام تبيع الشاي أمام بوابة جامعة القاهرة، وأنها انتقلت الآن إلى الميدان؛ لأنها لا تجد عملاً. كان في داخله كائن منحاز للجانب الأضعف من الحياة، لم يسكته، ولم يحاول مواراته، بل تقبله كجزء حقيقي من ذاته، جعله قادراً على استيعاب نظرة الاستسلام في عيني والدته، كلما تقدم بها السن، كما جعله يميز الوقت الذي تحتاج فيه المرأة التي يحبها للاحتضان فقط. كره استخدام كلمة «سلطة» ؛ لأنها ظلت مقترنة عنده بالسيطرة والغلبة والعنف، بقوة متجبرة معروفة ومرئية، ولا يمكن مقاومتها. لذا - بالنسبة له - كان النزول إلى الميدان، وجهًا سافرًا لمقاومة تلك السلطة، التي أصابت جسده النحيل أكثر من مرة، وكما لو أنه وُهب فجأة طاقة سماوية تتجاوز قدراته الجسدية نحو إرادة جماعية توحد كل من في الميدان، وتتفاعل في امتصاص القوة من العنف الموجه ضدها، ثم العمل على معاودة خلق تلك القوة، وتوزيعها من جديد. هكذا اعتبر نفسه جزءًا من بداية تشكيل لغة تعاطف جمعي، تشاركت فيها بائعة الشاي مع صديقه الرسام البوهيمي، وجاره الملتزم. الأيام والليالي المتواصلة التي أمضاها في الميدان، شكلت داخله اقتناعًا حرًا بأهمية يقظته. واستبدلت الحلم المخيف الذي كان يتكرر دوماً - بأنه يركض لاهثاً، لكنه لا يبرح مكانه - بحلم وقوفه على كوبري «قصر النيل» عند الفجر يمد يديه في شكل متصلب، ويحاول الإمساك بأيد ممدودة لا يبصر وجوه أصحابها، لكنهم مثله منهمكون بمحاولة التشابك. حين عاد إلى بيته، علق قميصه الملوث بالدم إلى جانب قمصانه النظيفة؛ مدركاً أن تلك البقعة لن ينالها الإمحاء. ستظل أمام عينيه دليلًا على أيام لم يعرفها من قبل، أيام لا تشبه الأيام.