يجلس الرجل الستيني على قارعة الطريق وفي يده ربابة يعزف عليها لحناً متقطعاً شجياً، لحن بدوي من موسوعة الأغاني التراثية التي يحفظها ويدندنها باستمرار، على رغم تبعثر ملامحه ونغماته بين وقع أقدام المارة وأصواتهم المرتفعة. لكنك، إذا تعمّدت السير على مهل في شارع «ركب» وسط رام الله، تراه يجلس على كرسيه الخشبي، يحضن ربابته برفق كمن يداعب طفلاً صغيراً ينشد له بشجن، تتيقن بأن وراء هذا اللحن الحزين قصة يمتزج فيها الأمل بالخيبة. تنطبع في الذهن ملامح الوجه الأسمر الشاحب والشعر الرمادي الأشيب وبقايا دمعة في عينيه السوداوين ويديه الخشنتين وفمه الفارغ من أسنانه. أما العابرون، فقد لا يعيرونه انتباههم، لأنه أصبح جزءاً من معالم الطريق. إنه راسم مصطفى (أبو نزيه)، الذي يجلس في المكان ذاته منذ نحو عشر سنوات، يبيع آلة الربابة التي يصنعها بنفسه بسعر لا يتجاوز 70 شيكلاً (20 دولاراً). «بائع الربابة»، كما يطلق عليه البعض، وهو في الأساس من قرية قلنديا القريبة من القدس، يتحدث بأسى عن زبائنه في العاصمة المفترضة للفلسطينيين، حيث كان يزود السنتوارية (باعة التحف والبضائع العتيقة) في البلدة القديمة بأشغاله اليدوية، كالآلات الموسيقية والمنحوتات الخشبية. أما الآن، وبعد حصار القدس بالحواجز العسكرية الإسرائيلية، إضافة إلى جدار الفصل العنصري، فإن الحسرة تملأ صوته حين يقول: «فقدتُ غالبية زبائني، وبالكاد أبيع آلات الربابة لزبائني المقتصرين على هواة جمع الأشياء الغريبة، وجلّهم من الأجانب والمرفّهين من أهالي مدينة رام الله». يتذكر راسم سني عمره الأولى في قلنديا بوضوح، إذ اعتاد الوقوف عند نافذة منزله كل صباح ليراقب الشارع المزدحم الضاجّ بأصوات عربات الحنطور والباعة المتجولين والمارة. ولكن، في صباح أحد أيام الإثنين، تغير المشهد في عيني الطفل الذي لم يتجاوز الخامسة من عمره، حين كان يطل من النافذة كعادته فرأى جموع النازحين تتدفق إلى قريته من ناحية القدس... كانت نكبة 1948. يتذكر سَكَنَ اللاجئين في مدارس القرية ومنازلها المهجورة، وكيف استقبلهم أهالي القرية على رغم فقرهم، كما استقبلت عائلتُه في منزلها المتواضع لمدة شهرين أسرةً من خمسة أفراد هُجِّروا من قرية الجورة، تقاسموا معهم أمكنة النوم والطعام، الى أن نصبت هيئات الأممالمتحدة خيماً للعائلات اللاجئة. كان في السادسة من عمره عندما خالط الطفل راسم بدو الأردن، وكانت عائلته هاجرت إلى مدينة مأدبا الأردنية، فتعلم منهم العزف على الربابة، كما شاركهم سهراتهم وسمع إنشادهم، وكيف ينقلون الحكايا والأخبار الملحّنة عن القبائل الأخرى. بعد سبع سنوات، تركت العائلة مأدبا، وعادت الى قلنديا، فطلب راسم من والده تعلم النجارة لدى أحد اصدقائه، وكان عمره 13 سنة. في البداية، عمل الفتى بلا مقابل ليتشرّب أصول المهنة، ثم راح يتقاضى مبلغاً مالياً بسيطاً ساهد في إعالة الأسرة. وفي مرحلة المراهقة، بدأ راسم العزف على الربابة في المناسبات والأعراس، إضافة إلى تدريب الشباب على الدبكة الشعبية في نادي البلدة، إذ أراد ملء وقت فراغه، ولم يكن لديه أصدقاء: «عمري ما لعبت (ورق) شدّة، ولا أخذت نفس أرجيلة... وعمري ما دخنت سيجارة!». تزوج راسم فتاة من قريته أنجبت له أربعة صبيان وخمس بنات، لكن الأسرة تفككت خلال الانتفاضة الثانية (عام 2000). غادر منزله، وباتت «المنجرة» بيته، حيث ينام ويعيش وحيداً بعيداً من عائلته. داخل المنجرة، تتكوم أدوات النجارة الخاصة بالحفر والتركيب والنشر، ولقلة الاستخدام يتراكم عليها الغبار: «هذه المنجرة ما شافت شغل من خمس سنين»، يقول بتأثّر. وترتبط الربابة لدى أبي نزيه بالواقع السياسي في بلاده، وبالنزعة الوطنية الرافضة للاحتلال، فأنشد عندما قُتل المصلّون في الحرم الإبراهيمي: «مع صلاة الفجر صار الصياحي... صهيوني غدر على الحرم صياحي... ولبس لبس لفلاحي بعد ما حمل سلاحي... ولي عليكم يا يهود ولي ذبحت الخليلي وهو بيصلي». وكان لاستشهاد الشباب في تظاهرات التضامن مع الرئيس الراحل ياسر عرفات حينما كان محاصراً، أثر كبير في حياته، فأنشد: «وينكم يا عرب وين الملايين... الشهادة ولا الذلّة». كما استنكر الحصار المفروض على المناطق الفلسطينية وتدهور الوضع الاقتصادي على طريقته: «هلّي يا دموع العين هلّي... إسرائيل سوا علينا الحصار وتركونا بالقلّة». ويقول الكاتب حسن البطل عن أبي نزيه، بائع الربابة البلدية اليدوية: «له مكانه المحفوظ على الرصيف، في حوزته دائماً ربابتان، كتب عليهما بخط يدوي وبالإنكليزية «للبيع»... لكن البيع قليل، وهو لا يكلّ ولا يملّ من العزف... أنظر إلى وجهه وأقول إن هناك تعاسات كثيرة، لكنني لم أرَ مثل هذا الحزن العميق على وجهٍ من قبل... لعله يحب الربابة إلى هذه الدرجة بسبب عويلها، والحزن أو الأسى». وعلى رغم كل الألم الذي يختزنه أبو نزيه، تبقى الربابة سلواه الوحيدة، ويبقى وربابته من معالم رام الله، التي بات من الصعب تخيّلها من دونه.