بلغت العملية التاريخية التي تحدث في سورية ذروة منحناها البياني عندما أصبحت أزمة دولية، وكانت مرَّت في صعودها بمحطة إقليمية تمثلت بالدول العربية وتركيا، وفي طورها النازل تمرّ الآن بمحطة إقليمية أخرى تتعلق بإيران وإسرائيل، التي قد يتحدد بعض أهم ملامح سورية المستقبلية وفق طريقة المرور منها. حدث التقاطع بين إسرائيل وإيران منذ استيلاء انصار الخميني على السلطة هناك، ولعل قيام كلا النظامين على إيديولوجيا عنصرية، يندمج فيها البعد الديني بالقومي، ويشكل العرب موضوع الكراهية الضدية لكل منهما، هو العتبة الأولى لتحالف موضوعي واعتماد متبادل طويل الأجل، تبدى من خلال رفع إيران شعار تحرير فلسطين من الصهاينة كذريعة للتدخل في قضايا العالم العربي والتغلغل فيه. وصمتت إسرائيل عن التمدد الإيراني في الإقليم ما دام غرضها إثارة نزاع مذهبي تستقطب من خلاله المكون الشيعي وتحتكر تمثيله إقليمياً ودولياً، وهو النزاع الذي لن يؤدي فقط إلى استنزاف جزء من طاقة الجبهة العربية المعادية لإسرائيل، بل الى تصدع تلك الجبهة عمودياً بشطر العرب إلى سنّة وشيعة. ولم تهاجم إسرائيل المفاعلات النووية الإيرانية كما فعلت مع المفاعل العراقي مطلع الثمانينات من القرن العشرين، على رغم تحذيرها الدائم من قرب حصول إيران على السلاح النووي، لأن ذلك السلاح صار شغل العرب الشاغل الذي أنساهم القضية الفلسطينية، ولم توجه إيران طلقة واحدة إلى إسرائيل مباشرة، إنما من طريق وكلاء صغار لها، يمكنهم الحصول على دعمها مقابل انخراطهم في محورها، لتمارس من خلالهم ادعاءاتها ونفوذها. وعلى مدى عقود كان النظام السوري نقطة التوازن في هذه العلاقة، وحظي برضا طرفيها لقيامه بواجبه الوظيفي نحوهما على أكمل وجه... فهو يلتزم باتفاقه المتفاهم عليه ضمناً أو صراحة مع إسرائيل بحراسة حدودها الشمالية، ويقوم بواجبه كحجر زاوية للمشروع الإيراني المحوري، وكل ذلك في مقابل حماية بقائه. تنحصر خيارات إيران في التعامل مع التطور المتمثل بالثورة الشعبية على النظام السوري، بثلاثة احتمالات هي: دعم النظام الحالي بكل قواها للحفاظ عليه، أو دفع سورية إلى الفوضى العارمة ومنعها من التحول دولة قوية تنضم إلى الضفة المناوئة لها، أو اقتطاع جيب مذهبي تواصل من خلاله ممارسة ما يمكن من النفوذ الإقليمي على غرار «حزب الله» اللبناني. ولأن إمكانية بقاء النظام تبدو مستحيلةً، وخيار تدمير البلاد من خلال الدفع باتجاه الحرب الطائفية وتمويلها يمكن تأجيله، اتجهت إيران إلى محاولة استقطاع جيب طائفي، وأوفدت وكيلها الدولي بوتين إلى اسرائيل حوله. من غير المعروف ما إذا كانت زيارة بوتين لإسرائيل أسفرت عن عقد صفقة حول هذه النقطة أم لا، ومن حيث المبدأ لا يبدو أن إسرائيل يناسبها أن يصبح لإيران جيب آخر بالقرب من حدودها الشمالية، إلا أنها قد تجد في سورية المنقسمة مذهبياً خياراً مقبولاً أيضاً. فالصراع الداخلي سيخرج السوريين من معادلة الصراع مع إسرائيل إلى أمد بعيد، وسيشغل عموم المنطقة بصراعات صغيرة وكبيرة لا تنتهي، وقد تدفع كثيراً من الأطراف الى طلب عونها، على نحو ما فعلته إيران ذاتها في الثمانينات حين لجأت إلى إسرائيل لشراء أسلحة لضرب العراق، بعد أن امتنعت الولاياتالمتحدة عن تزويدها بها، وهي الحادثة المعروفة ب «إيران غيت». في هذه المحطة من مسار ثورته، يبدو الشعب السوري وحيداً وأعزل أكثر من أي وقت مضى. فإيران وإسرائيل تخوضان الصراع على سورية عبر روسياوالولاياتالمتحدة اللتين لا يستطيع أي من فصائل المعارضة السورية التأثير فيهما، والمعارضة لا تجرؤ على مجرد التواصل مع إيران وإسرائيل لحسابات سياسية واعتبارات أخلاقية. أما حلفاؤها الإقليميون من الدول العربية وتركيا، فهم أكثر عجزاً، بينما يمتلك النظام علاقة عضوية بإيرانوروسيا، وليس لديه ما يردعه عن التفاهم مع أميركا وإسرائيل... ومع مزيد من التنازلات التي لن يتورع عن تقديمها، يصبح موقفه أكثر قوة. في ظل هذه الصورة المحبطة ليس أمام السوريين الثائرين سوى التحرك بسرعة وفاعلية لإخراج قضيتهم من المطبخ الإيراني- الإسرائيلي واستعادة زمامها، وإعادة توطينها بعدما تغربت كثيراً في الجري وراء وهم التدخل الدولي، ولن يكون ذلك ممكناً سوى بالقطع الكامل مع طروحات إسرائيل وإيران ومنع تدخلهما، واستنفار حلفاء الثورة الإقليميين الذين تهددهم الأخطار أيضاً في حال تركت تلك القضية لهما. بعض أطراف المعارضة وشخصياتها الأكثر دراية بحال الثورة دعا إلى خوض حرب التحرير الشعبية، فتبنى الشارع الثوري تلك الدعوة فوراً، إذ وصل السوريون إلى اليقين المطلق بأن النظام لن يرحل بغير السلاح، وأن معركتهم ستأخذ طابع المقاومة المتصاعدة حتى التحرير الكامل، وأن الشعب وحده مَنْ ينجز التغيير الذي يصبو إليه. وهذه وصفة إن طُبِّقت فستعيد للثورة حيويتها واستقلالها الذاتي، وستجعل كل الأطراف تلهث وراءها لنيل رضاها، لا اغتصابها في كواليس المصالح الدولية.