لو كنا نعرف عن الآداب الإسبانية كما تجلت خلال القرون الأخيرة من عمر هذا البلد، اي القرون التالية على خروج المسلمين منه، ما نعرفه، عادة، عن الآداب الفرنسية أو الأنغلو/ساكسونية، لكان في وسعنا أن ندرك أن «دون كيخوتي» لتثربانتس، ليست العمل الروائي الكبير الوحيد المكتوب في اللغة الإسبانية، وان الابداع في اسبانيا لم يتوقف مع زوال الاندلس واستشراء محاكم التفتيش. بل انه وخلال القرون الثلاثة المنصرمة ازدهر ازدهاراً استثنائياً متواكباً مع ازدهار الرسم والعمارة وضروب الابداع الاسبانية الأخرى قبل أن يشق طريقه مستطرداً في بلدان أميركا اللاتينية الناطقة بالاسبانية. ولو تحرى المرء منجزات الفنون الاسبانية خلال الحقبة التي نشير إليها، لأخذه العجب ازاءها، كماً ونوعاً. غير ان المهم هنا، هو أن هذا الابداع الاسباني لم يتمكن من أن يشق لنفسه دروب العالمية، من ناحية، بسبب سيطرة آداب اللغات الطاغية، ومن ناحية ثانية بسبب ابتعاد اللغة الاسبانية نفسها عن التداول العالمي. ثم، في القرن العشرين، حين تعولمت ثقافات العالم، كان فرانكو من السيطرة على اسبانيا الى درجة ان القمع طاول كل شيء، وجعل كبار المبدعين الاسبان، وخصوصاً في فنون غير لغوية، ينفون أنفسهم الى خارج وطنهم لكي يبدعوا، فكانت النتيجة ان حسب كبارهم (من بيكاسو الى بونويل، ومن خوان ميرو الى تابييس) على البلدان التي استضافتهم، وربما على فنونها أيضاً. ولكن منذ زوال فرانكو، ووصول العولمة مرحلتها العليا، ثم انتشار آداب أميركا الجنوبية، استعاد الأدب الإسباني رونقه وحضوره وبدأ ينتشر على نطاق لا بأس به. أعمال كثيرة وأسماء عدة أفادت من هذا الانتشار. ومن بين هذه الأعمال والأسماء، ذلك العمل الكبير الذي كتبه، خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر بنيتو بيريس غالدوس بعنوان «الحلقات الوطنية الثلاث والأربعون». وهذا الاسم قد يبدو غريباً للوهلة الأولى، لكنه يصف حقاً هذا العمل، إذ ان غالدوس، وفي ثلاثة وأربعين نصاً، أو حلقة، كتب تاريخ وطنه اسبانيا كله خلال القرن التاسع عشر، في شكل يمزج بين الرواية والتاريخ. أو بالأحرى أتى تاريخاً يصفه راوٍ وشخصيات بعضها حقيقي وبعضها مختلق. ذلك أن غالدوس خلال مرحلة متوسطة من حياته، وهي مرحلة راح يهتم فيها بالسياسة أكثر وأكثر بعدما كان اهتمامه فنياً وأدبياً، شغف بالتاريخ لمجرد أنه رأى أن التاريخ وأحداثه، إن فهمت في شكل جيد، يمكنها أن تفسر الأحداث الراهنة وتوضحها. ومن هنا راح يكتب ذلك التاريخ الوطني تباعاً، وفي شكل يذكّر الى حد كبير بما فعله جرجي زيدان لاحقاً حين كتب التاريخ الإسلامي وتاريخ منطقة الشرق الأوسط كلها، في روايات تنظر الى الأحداث الكبرى والفاعلة من وجهة نظر شخصيات تعيش تلك الأحداث، ما يجعل المزج بين التاريخ العام والتاريخ الخاص، أسلوباً طاغياً. وللتمثيل على هذا العمل الكبير الذي كتبه غالدوس، ومن المؤسف انه لم يعرف كثيرا خارج نطاق متكلمي اللغة الإسبانية وبعض الترجمات النادرة، نتوقف هنا عند الحلقة الأولى، وهي تحمل عنوان «ترافلغار» (أو الطرف الأغر، كما يحلو للبعض ترجمة الاسم الى العربية). ومن خلال هذا العنوان نفهم ان هذا الكتاب الأول يتحدث عن معركة «ترافلغار» التي وقعت عام 1805، وخلالها هزم الأسطول الانكليزي «الآماردا» الاسبانية التي كانت تعرف بأنها اسطول كبير وقوي لا يقهر. الذي حدث خلال تلك المعركة الفاصلة في التاريخ الأوروبي هو أن الآرمادا هزمت. ولسوف يرى الاسبان ان هزيمة اسطولهم هذا لم تكن بسبب ضعفه أو عدم شجاعة البحارة والمقاتلين الذين كانوا يتولون شأنه، بل بسبب سوء القيادة وربما لشيء من الخيانة أيضاً. ومن هنا ظل الإسبان لفترة طويلة جدا من الزمن - وبعضهم حتى الآن - يعتبرون هزيمة الآرمادا جزءاً من التاريخ البطولي للشعب والأمة الاسبانيين. لكن غالدوس لم يرو ما حدث في شكله التاريخي الرسمي، بل آثر ان يروويه بشكل مختلف كلياً، بشكل قد لا نكون بعيدين عن الصواب إن نحن وصفناه بالشكل الإنساني. فغالدوس، إذ سمع بنفسه حكاية هزيمة الآرمادا من بحار عجوز صار صديقا له ذات يوم، وروى له أنه هو كان بحاراً على متن إحدى سفن الآرمادا في شبابه المبكر، ثم راح يزوده تفاصيل التفاصيل، قدم - أي غالدوس - عمله على شكل حكاية خاصة/ عامة يرويها ذلك البحار ويدعى غابريال. ومنذ بداية الرواية يقدم لنا غالدوس، غابريال بصفته فتى يتيما ربّي في الشوارع، والتقطه ذات يوم ضابط بحرية عجوز مولع بالمعارك الحربية البحرية، ويحلو له أن يتحدث طوال الوقت عن الانتصارات الكثيرة التي اعتادت السفن الإسبانية تحقيقها ضد السفن الانكليزية. وذات يوم إذ عرف ذلك الضابط أن في الأفق معركة بحرية كبيرة تخوضها «الآرمادا» الإسبانية ضد الانكليز، تمكن على رغم انه متقاعد، من الوصول الى متن أكبر واحدة بين سفن الأسطول مصطحباً معه غابريال الفتى. وفي البداية تكون الحمى الوطنية مستشرية، ثم حين تبدأ الحرب ومعها مشاهد القتل والدمار تتالى، يكتشف غابريال أهوال الحرب وضراوة القتل والحرق والنهب والتدمير، تماماً على الشكل الذي رسم فيه غويا كل ذلك. وإذ يروي غالدوس هذا كله على لسان غابريال، يخبر قراءه كم ان هذا الأخير منذ ذلك الوقت المبكر، راحت تتجاذبه النزعات الإنسانية، حيث نراه يتحدث، على رغم وصفه قساوة القتال، عن «ضرورة أن يحترم الجندي الجندي العدو في كل لحظة من اللحظات»، بل لا يفوت غابريال أن يخبر غالدوس بأنه، في عز احتدام القتال ووسط مشاهد الخراب والبطولات، لم يتمكن من أن يمنع نفسه من تمني قيام اخاء دائم بين الشعوب مهما كانت الاختلافات والخلافات التي تفرق بينها. ومن الواضح هنا أن غالدوس، يستخدم شخصية غابريال، (اضافة الى الكثير من الشخصيات الأخرى التي يروح واصفاً لنا تصرفاتها، ومن بينها قائد السفينة العجوز وزوجته، والضابط المتقاعد)، يستخدم كل هذه الشخصيات متوغلاً في سلوكها صعوداً وهبوطاً، معطياً إياها طابعها الإنساني العميق، محاولاً في هذا أن يضعنا على تماس مباشر مع تصوّره الأثير للشخصية الإسبانية: الشخصية التي تتجاور لديها الوطنية مع نزعة مثالية عميقة، ونزعة انسانية أعمق، تتجاوز الفوارق العرقية والأممية وفوارق الجنس والأجيال. والحال ان هذا ما يضفي على العمل سمته الرئيسة ويجعله جزءاً من التراث الانساني. وهذا الأمر لا يقتصر على هذه الحلقة الأولى من السلسلة، بل يهيمن على الحلقات الأخرى كافة، وهي من بعد «ترافلغار» تعالج نقاطاً انعطافية متتالية من تاريخ إسبانيا خلال القرن قبل الماضي، وعلى الشاكلة نفسها أيضاً... بل ان شخصية غابريال تعود في حلقات متتالية، إذ يصبح جنديا، ثم رب أسرة الى آخر ما هنالك. والحال ان هذه المجموعة من ابلروايات التي يمكن وصفها بالمتصلة/المنفصلة تتضافر فيما بينها لتقديم صورة ليس فقط عما كانت عليه الأوضاع السياسية والتاريخية في اسبانيا عشية وصول الفاشيين الى السلطة بقيادة فرانكو، بل كذلك صورة للكيفية التي كان عليها الفكر الإسباني قبل ان تغرقه تلك الفاشية في اتون التعصب والتطرف والإنقسام الداخلي تحت الذريعة الأبدية التي لا تتوقف الأنظمة الديكتاتورية عن استخدامها فزاعة لقهر الشعوب وتدجينها: المؤامرة الخارجية! بنيتو بيريس غالدوس، الذي ولد عام 1843، ليرحل عام 1920، بدأ حياته ناقداً وصحافياً، قبل أن ينتقل الى كتابة هذا النوع من الروايات التي راجت شعبياً، إذ وجدت قراءها بسرعة. ومن بين أولى رواياته «نبع الذهب» و»دونيا برفكتا»... ثم سلسلة «الحلقات الوطنية» التي شرع في كتابتها بعد أن صار شبه ناطق رسمي باسم الحركة الليبرالية الدستورية في عهد ألفونس الثاني عشر. وهو خلال تلك الفترة صار عضوا في مجلس النواب (الكورتيس) في البورتوريكو... غير انه في رواياته الأخيرة غلبت عليه النزعة الصوفية فاستبدت به. [email protected]