في عام 2005، كانت المحطات الفضائية العراقية مشدوهةً بأول انتخابات حرة في البلاد. وفي تغطيةٍ اعلامية أقرب ما تكون إلى الاحتفال، ظهر عراقيون في اعلانات متلفزة وهم يلوحون بأصابعهم البنفسجية. كانت لحظة مشحونة بالعاطفة أخفقت في الإيحاء بما يضمره المستقبل. فتاة ترتدي النقاب كانت من بين هؤلاء، وقالت لمراسل محلي سألها عن سبب تصويتها لكتلة الائتلاف الشيعية: «ألم يرشح فيها آية الله علي السيستاني؟ كيف لا أصوت لها». هذه الإجابة التي بثتها القناة كانت إشارة الى قناعة أعداد هائلةٍ من المشاركين في الانتخابات، ولم تكن تدل على إخفاق العراقيين في فهم الصوت الانتخابي، أو على عدم معرفتهم بالمرشحين الذين تضمهم قائمة منحوها أصواتهم. كان الخاسرَ في هذا المعيار الانتخابي كلُّ من غامر باسم العلمانية. العلمانيون في العراق محاصَرون بخطابٍ متفشٍّ عن الدين، لكن هذه المرة بطعم سياسي: «لا تخرّبوا العراق بفسادكم». هذه اللغة المحكومة بالمعيار الاخلاقي أنتجها رجال الإسلام السياسي، وانتقلت -مثل أغنية سريعة- إلى ألسنة الجمهور، وصارت حكماً نهائياً على كلِّ من يطرحُ نفسه مرشحاً علمانياً. كان للحزب الشيوعي العراقي، كنموذج مفترض للقوى العلمانية، مقعدان في مجلس النواب ووزير للثقافة، وفَقَدَ لاحقاً حضورَه في المؤسستين الحكومية والنيابية، على رغم حرصه على مغازلة جمهور الاحزاب الدينية. كانت البيانات التي تؤبن ضحايا واقعة الطف التي قتل فيها الامام الحسين، ثالث الائمة عند الشيعة، سياقاً شبه ثابت لدى الشيوعيين العراقيين، لكنه لم يفلح، عاكساً الحالة الهشة التي تقف عليها مثل هذه القوى حين تضفي على خطابها براءةً دينية. سلطة الدين في النجف القديمة، وهي مركز المدينة ومكان رمزي للشيعة تقطنه المراجع الدينية الأكثر بروزاً، كانت الأزقة الضيقة تشهد حراكاً حول باعة يعرضون مطبوعات دينية. من الصعب هناك العثور على كتاب خارج السياق، فكلها رسائل اجتهاد للمراجع، وكتب عن تاريخ المدينة، ومئات المطبوعات عن الأدعية ومراسم الزيارات عند الشيعة في العراق. يقول طالب في حوزة النجف، في الثلاثين من العمر: «الامر يتعلق بهوية المدينة. ليس في وسعك العثور على كتاب حسين مروة (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية)، حتى ان بعض رجال الدين الذين يدعون إلى فصل الدين عن الدولة، تنفِّرهم المرجعية، ولن يكون لهم أي حضور». يقول نشطاء في حملات انتخابية تعمل لصالح قوى علمانية، إنهم شعروا بتلك الصعوبة حين شاهدوا العديد من دعاة القوى الدينية المتنافسة على الانتخابات يقفون على باب مراكز التصويت يوزعون أدعية دينية، ويجعلون الناخبين يقسمون على المصاحف بأنهم لن يمنحوا أصواتهم «للكفرة والملحدين». كان هؤلاء الدعاة يأخذون الاموال لقاء هذه المهمة. حاول نشطاء مدنيون عراقيون النيلَ من هذه الثقافة، التي تجد متلقين بسهولة كبيرة، وكانت فاعليات عديدة تحاول كسر هذه الاجواء المتوترة والقائمة على التحريض. وزع هؤلاء منشورات كتبت عليها بيانات مقتضبة عن العلمانية، وعن انها تعني فصل الدين على الدولة. كانت هذه اللغة تستفز الزعامات الدينية، ففي خطبة جمعة بناحية تقع إلى الجنوب الغربي من مدينة الحلة، وهي مركز محافظة بابل، قال رجل الدين امام مئات المصلين: «من أهم مكتسبات العهد الجديد، بعد التخلص من الطاغية، الحرية التي نحن عليها اليوم، والدليل أننا هنا نصلي ونؤدي الشعائر، لكن الخطر الذي يهددنا لا يزال قائماً... الملحدون انصار العلمانية. سبق وان انتصر عليهم المرجع محمد باقر الصدر، وسنفعل أيضاً». هكذا تزرع الزعامة الدينية في العراق، وفي جنوبه خصوصاً، فكرة ان العلماني ونصير صدام حسين وجهان لعملة واحدة. وسُجلت حوادث قتل لنشطاء مدنيين خلال السنوات الماضية، أغلبهم من مدن يغلب عليها المناخ الديني، ففي مدينة الصدر صيفَ العام 2008، عثرت الشرطة على جثة عامل نشط في تشكيل نقابة مهنية لعمال المنطقة كان قد تجاوز السلطة الدينية، التي يستفزها مثل هذا الحراك المستقل. لكن المفارقة تكمن في سلوك مزدوج يمارسه سكان المدن المغلقة حيال القوى الدينية. في كربلاء، يروي تجار ألبسة نسائية أنهم يستوردون ملابس غير محتشمة، وهي تجد طريقها إلى متناول عراقيات في تلك المدينة المحافظة، لكنهن لا يرتدينها سوى في مناسبات واحتفالات داخل المنازل، بعيداً من العيون، ويحرصن في الوقت ذاته، على ممارسة الشعائر الدينية الطاغية على حياة المدينة. يقول ضابط شرطة من مدينة كربلاء، إنه يمتلك أوامر رسمية بمنع ادخال المشروبات الروحية إلى المدينة، ولديه أيضاً صلاحية مصادرتها وإلقاء القبض على صاحبها، ويقول: «الذين يتناولون المشروبات الروحية ليسوا قلة في المدينة، وبرغم كل الاجراءات المشددة يفلحون في الحصول عليها». ومع ذلك، حتى أولئك الذين يؤيدون حياة مدنية لا يمنحون أصواتهم لقوى علمانية، فهم يخافون من ألاّ يحصلوا على الوظائف التي تُمسِك بها احزاب السلطة. مشاريع علمانية ... فاشلة كلما اشتدت أزمةٌ سياسيةٌ في العراق، يتذكرُ الرأي العام السؤال: أين هي القوى العلمانية؟ الاجابةُ مفقودةٌ على رغم كل هذا الضجيج «العلماني» الذي تحدثه قوًى بشعارات رنانةٍ عن الدولة المدنية. يوم جاء أياد علاوي بكتلته «العراقية» وبخليط من الشيوعيين والليبراليين والقوميين والبعثيين وجمهور يعارض الدولة الدينية، كان يطرح نفسه زعيماً علمانياً. بعد سنوات صار الرجل يبحث عن دور سياسي ويجد صعوبة كبيرة في ذلك، ثم اختار بعدها التنازل عن شعاره المعلن والانخراط سريعاً في معادلات السلطة الصعبة. تقول صفية السهيل، وهي نائبة مستقلة سبق وان أعلنت انشقاقها عن كتلة علاوي: «كان الاستمرار مع العراقية امراً صعباً، لقد انحرفت القائمة عن اهدافها، ولم تعد كتلة تنتصر للدولة المدنية». لم تكن السهيل وحدها المنشقة عن العراقية، الحزب الشيوعي فعل ذلك أيضاً. القوى الدينية كانت سعيدة جداً بما وصلت اليه «العراقية»، قوى الإسلام السياسي، وعلى وجه التحديد تلك التي تدور في فلك البيت الشيعي، وهي أكثر تنظيماً وتماسكاً من القوى العلمانية، بما فيها تيار علاوي. هذه القوة شعر بها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وعبر عنها في خطابه المثير للجدل بالنجف في ذكرى رحيل الأب الروحي لحزب الدعوة الإسلامية محمد باقر الصدر: «لقد انتصرنا على الإلحاد والماركسية، وفزنا في معركتنا ضد الحداثوية». وهي القوة ذاتها التي جعلته يتخطى ازمة سحب الثقة التي شنها ضده علاوي مع الاكراد وكادت تنجح، لولا انقلاب في موقف زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر.