«إذا أردتَ أن تفهم الحرب، فلا يكفي أن تصغي إلى الضحيّة بل عليك ايضاً بمساءلة الجلاّد». (ص15) هذا هو المخطّط الروائي الذي عمل به الكاتب اللبناني بالفرنسية اسكندر نجّار في روايته «حصار صور» التي نقلتها الى العربية ماري طوق (دار الساقي، 2012). ففي الرواية المؤلّفة من ستّة وثلاثين فصلاً، تناول نجار الأحداث من وجهة نظر الاسكندر المقدوني المحاصِر، ومن وجهة نظر إليسا الفتاة الصوريّة المحاصَرة. فيقع القارئ على الأحداث نفسها من طرفيها، ففي فصل أوّل تصف إليسا الفتاة الصوريّة المقاتلة والمناضلة والأمّ الشابّة، الأمور كما تراها من داخل الأسوار. ثمّ في فصل ثانٍ يصف الاسكندر الغازي البطّاش والقائد المحنّك الأمور كما تجري من خارج الأسوار، وهكذا دواليك حتّى الفصل الأخير. وبينما تصف إليسا حالة أهل صور وتتكلّم بصيغة المتكلّم مُبيّنةً مشاعرها وأفكارها ومخطّطاتها، يصف نجّار تصرّفات المقدوني عبر ضمير الغائب «هو» ويكتفي بوصف تحرّكاته مع بعض الإشارات إلى حالته النفسيّة. تُعرّف الرواية في مرحلة أولى وقصيرة بإليسّا عبر وصف عائلتها ونمط عيشها في مدينتها صور وأبرز خصائص أهلها والفينيقيّين عموماً وهم الذين «يمارسون التجارة بموهبة قلّ نظيرها ويتلون كلامهم المعسول بقوّة إقناع كبيرة بحيث إنّهم يصدّقون في النهاية كذبهم بالذات». (ص59) تتناول إليسا خصائص الفينيقيّين وهم أهل تجارة وفن وسفر عبر البحار وتجوال عبر المدن. وتتخلّل هذه المرحلة الأولى قصّة حب بين إليسا ومناسياس زوجها ووالد زينون، وهو تاجر من صيدون التقت به في قرطاجة. وبخطٍّ موازٍ لتطوّر الأمور الحياتيّة في صور، تتناول الفصول الأولى المرويّة من ناحية المقدوني، قصّة غزواته واقترابه من أسوار صور. فنجد أنّ الاسكندر حتّى الفصل العاشر لم يكن قد اقترب من صور بعد، وما زال في صيدون يعيّن ملكاً عليها ويُعنى بأمور الصيد. أمّا في مرحلة ثانية وهي المرحلة الأكبر والأهمّ في الرواية، فنجد قصّة حصار صور قد بدأت تتبلور. فمنذ الفصل الثاني عشر تروح الأمور تتدهور؛ فتفشل المحادثات، ويقرّر الاسكندر دخول صور، ويرفض الصوريّون السماح له بذلك، فيبدأ الحصار. توثيق تاريخيّ وقصّة حصار صور الواقعة في صلب الحبكة الروائيّة، مؤطّرة بمقدّمة وخاتمة تضعان القارئ في جوٍّ روائي يقع بين معلّم وتلميذه. فتظهر هذه الرواية على أنّها قصّة إليسا أم زينون الرواقي (334 ق.م. – 262 ق.م)، مؤسّس المدرسة الرواقية في الفلسفة في أثينا، قصّة يرويها زينون لتلميذه الذي يرويها لنا بدوره. وقد استطاع اسكندر نجّار أن يتحكّم بلعبة الروائيّين في قصّته بسلاسٍة مبطّنة، فنجّار هو الراوي الأوّل ينقل لقارئه حقائق تاريخيّة أخذها عن أبولونيوس، وأبولونيوس هو الراوي الثاني يروي ما قصّه عليه معلّمه قبل أن يموت، وزينون هو الراوي الثالث يروي لتلميذه أبولونيوس قصّة عائلته، وإليسّا هي الراوية الرابعة التي تروي لابنها قصّة مدينته، هي الشاهدة على الأحداث وهي أساس كلّ هذا الفعل الروائي، إلى جانب راوٍ رابع آخر هو راوي الاسكندر الذي يروي قصّة إليسّا نفسها ولكن من وجهة نظر المحاصِر. يُحافظ نجّار على الحقائق التاريخيّة ويقيم حبكته حولها، فنجده يلتزم معظم الوقائع من دون أن يسترسل في رواية خياليّة تبتعد عن مسار الأمور كما وقعَت فعلاً. فأوّلاً من ناحية عامل الزمان نجده يلتزم التاريخ (332ق.م.) ومدّة الحصار الذي دام سبعة أشهرٍ، والنتائج المترتّبة عنه من ناحية الضحايا ومن ناحية الخسائر. ونجد أيضا أنّ تسلسل الأحداث وتقدّم المقدوني في غزواته موجودة في رواية نجّار تماماً بحسب وقوعها تاريخيّاً. أمّا من ناحية الشخصيّات فنجد نجّار يحترم مزاياها التاريخيّة ويستفيد منها. فمثلاً المقدوني عند نجّار له عينان مختلفتا اللون كما هو الأمر فعليّاً، ثمّ يصف شخصيّة المقدوني هذا الغازي الشجاع النزق الذي يسترسل في أهوائه وشهواته تماماً كما وصفه المؤرّخون. وكذلك في شخصيّة زينون فهو يعيد سرد وقائع حياته بدقّة ويصف آخر لحظات حياته وفقاً للرواية التاريخيّة المتعارف عليها، فيعيد نجّار الجملة الأخيرة التي تلفّظ بها زينون عند وقوعه على الأرض: «فيما كان معلّمي خارجاً من المدرسة، تعثّر على الدرج وسقط أرضاً. تولاّني الذعر... نظر زينون إلى عينيّ ثمّ قرع الأرض مردّداً كلمات الشاعر نيوبي: أنا آتٍ فلماذا تنادين عليّ! ثمّ سرعان ما فارق الحياة.» (ص217) ومن ناحية عوامل الحضارة الفينيقيّة، قدّم نجّار لوحات تؤكّد عمق معرفته بهذه الثقافة ووسع اطّلاعه على أبرز معالمها. فنجده يصف أسواق التجّار وطريقة تعاملهم بعضهم مع بعض بدقّة تكاد تكون علميّة . كذلك لوحة تقديم الأضاحي للآلهة والإجلال الذي يشعر به أهل المدن لآلهتهم. فقد كانت العادة أن يكون لكلّ مدينة ثلاثة آلهة، وثلاثي صور هو بعل شميم (اله السماء)، عشتروت (الهة الجمال)، ملقارت الاله الشاب سيد المدينة وملكها. كذلك تناول نجّار الإيمان العميق بشخص العرّاف، فهو موجود عند الطرفين كليهما وعلى غرار الصوريين يؤمن المقدوني بعرّافه ويعمل بحسب مشورته. ويُظهر نجّار بوضوح عشوائية أحكام العرّاف ورؤاه، فعرّاف صور وعرّاف الاسكندر فسّرا كلاهما الظاهرة نفسها بطريقتين متناقضتين وحسم كلّ منهما الأمر لمصلحة الطرف الذي يفسّر له. لم يكن سقوط صور نتيجة تخاذل أهلها، ولا نتيجة ضعف أسوارها، ولا حتّى نتيجة حنكة المقدوني العسكريّة. سقوط صور كان نتيجة الانشقاق الذي وقع داخل صفوف حكّامها، نتيجة اصطفاف الفينيقيّين إلى جانب الغازي المحتلّ، كان نتيجة اجتماع أسطول صيدون وقبرص ضدّها وامتناع أسطول قرطاجة عن تقديم العون لها: «هذه حالنا على الدوام: نتفرّد في قراراتنا ونعجز عن التفاهم في ما بيننا ونتأثّر بالتدخّلات الخارجيّة» (ص147) «حصار صور» لاسكندر نجّار هي رواية حصار بيروت وصيدا وكلّ مدينة لبنانيّة لم تنقص أهلها العزيمة ولا القدرة الهائلة على الصمود، إنما نقصتهم القدرة على التعاون وعلى التكاتف وعلى الخروج من المأزق شعباً واحداً لحضارة واحدة. انها رواية مدينة أرهقَت أسوارُها أعظم أسطولٍ في زمنها، ولكنّها سقطَت أمام رياح الفتنة والانشقاق.