هل أدمنَتِ الأرضُ عطشاً للدماء إدمانَها المطر؟ هل استلذَّ الترابُ مُلُوحةَ الدم مذ سفكَ قابيل دماء هابيل؟ من يومها صار الدمُ البشري ملحَ الأرض. الدم السوري يُثقل كاهل الحبر. تنوء اللغة بوحشية القتل وفظاعة الموت، لا تعود قادرةً على اجتراح عبارة واحدة تليق بنضارة الشهداء وطراوة الأطفال الذين يعلّقون نظراتهم الأخيرة الشاخصة براهينَ إدانة، لا للقتلة فحسب، بل لكل الصامتين والمتفرجين والمحرّضين على المزيد، ممن لا يرون في أرواح البشر سوى مجرد أسهم في بورصات مصالح دولية لا تقيم وزناً للشعوب والأوطان. كل حبر العالم لا يساوي قطرة دم بشرية، ولا دمعة أم، أو نظرة رعب في عيني طفل، فكيف نكتب؟ وماذا نكتب؟ اذا كان القاتل ينتشي بحشرجة ضحاياه، واذا كان القتلى أكثرَ حياءً من القَتَلة، هل تردُّ اللغةُ الوحشَ الكامن في الكائن البشري؟ هل تمنع الكلمة سكيناً من الذهاب عميقاً في عنق الحياة؟ الدم السوري يسيل أنهاراً، حتى يكاد العاصي وبردى يجفّا قهراً وكمداً، يشطرُ الروحَ ويصدّع القلب، تاركاً شروخاً في الضمائر والأفئدة لن تقوى الأيام الآتية على ترميمها وإعادة اللحمة اليها. والأنكى -ونحن في لبنان اختبرنا حروباً ضارية لا تزال مستمرة بأقنعة مختلفة رغم مرور أكثر من عقدين على توقفها «رسمياً»- مَن يردم (غداً) فجوة تزداد اتساعاً بين مكونات شعب هو قلب الأمة وشريانها الأبهر بحكم التاريخ والجغرفيا؟ أخطر ما في المذبحة السورية المستمرة، أنها لا تُرخي بفجائعيتها وقتامتها على الحاضر فحسب، إنها تنخر في جسد المستقبل، تفتت القلب والكبد وسائر الأعضاء، ولا صوت يعلو على أزيز الرصاص، حتى صراخ الأطفال ونحيب الأمهات. حين يسقط الشهداء والضحايا يصيرون مجرد عدد في نشرات الأخبار ومانشيتات الصحف، لا نفكر فقط فيهم وفي صور موتهم المرعب التي تنام على وسائدنا وترافقنا في «الأحلام»، نفكر أيضاً في الذين ظلوا على قيد الحياة، في الأمهات الثكالى والزوجات الأرامل والأبناء اليتامى، في الأخوات والبنات وكل الأحبة، الذين يتجرعون كؤوس الفاجعة وعلقمها، نفكر في قابل الأيام وما يختزنه هؤلاء في ذاكراتهم ووجدانهم فردياً وجماعياً، وفي أي مستقبل نؤسس له ونكتبه بالدم والرصاص. نشعر أن كل رصاصة تصوب على سوري انما تصيب قلب المستقبل الذي لن يُبنى أبداً على الجماجم والأشلاء. ينقل باتريك سيل (الحياة 13 تموز/ يوليو2012) عن وزير خارجية النروج يوناس غاهر هذه الجملة: «الحوار هو إستراتيجية الشجعان». كل قطرة دم تسيل ينبغي أن تكون محرّضاً وحافزاً على إعلاء صوت الكلمة فوق صوت الرصاص. قد لا يتقبل البعض فكرةَ الحوار بعد أنهار الدم والدموع، لكن في نهاية المطاف لن تعود عقارب الزمن الى ما قبل 15 آذار (مارس) 2011. أهمية الحوار الحقيقي الصادق، لا الفلكلوري الهادف الى تلميع هذا أو ذاك وكسب الوقت لتسجيل النقاط، أنه يكبح الجموح نحو المزيد من القمع والعنف والارهاب، ويخفّف ولو قليلاً وطأةَ الفاجعة. لا بد من حوار، بفعل تركيبة المجتمع السوري المتعدد المتنوع لا بد من حوار، ولئن كان الأمر متعذراً بين السلطة والمعارضة، فليكن بين مكونات المجتمع السوري، ليكن بين السوريين أنفسهم بدلاً من أن يكون «على السوريين» في أروقة الأمم وكواليس الدول الكبرى، وليكن في أولويات الحوار السوري، فضلاً عن بناء أسس مستقبل ديموقراطي مدني حر، محاسبةُ المجرمين والمرتكبين والقتلة أياً كانت مواقعهم ومسؤولياتهم وانتماءاتهم. الدم السوري دمنا جميعاً، مسؤوليتنا جميعاً، أمانة في أعناقنا وضمائرنا، وما لم يتوقف سفكه وجريانه ستسيل دماء أخرى كثيرة، ولن تكون وقفاً على السوريين وحدهم. فهل من إستراتيجية شجعان؟