تأخذ منقاشات الموازنات في الكثير من الدول، أبعاداً شعبية، يركز فيها على بنود الانفاق وكيفية تحقيق الايرادات. وتكون المناسبة عادة الوقت الافضل لتقديم اقتراحات عملية وإثارة الاسئلة المناسبة، عن أمور مثل السياسة الضريبية وعلاقة ذلك بتوزيع الدخل والتفاوت بين المناطق من الناحية التنموية، والعدالة الاجتماعية وعدالة التوزيع في النفقات، والإطار الاقتصادي الذي يحكم القرارات الاقتصادية، والتوجهات المستقبلية، إضافة الى العلاقة بين الانفاق العام والنمو المتوقع. ونظراً الى الآليات التقليدية، فإن منظمات دولية باتت تطالب الدول بإصدار ما يعرف بالموازنة الشعبية التي تركز على أساسيات الانفاق وتحصيل الايرادات، بأسلوب مبسط يتيح للشرائح الاجتماعية المختلفة المشاركة في اتخاذ القرارات حول الإنفاق العام والنقاشات المتعلقة بها وموقف كل نائب وحزب من بنود الموازنة المختلفة. والحقيقة ان مبدأ المركزية أو اللامركزية في تفويض صلاحيات الحكومة الى الأطراف المحلية، يتعلق بالأساس بمبدأ فرض الضرائب أولاً والإنفاق لاحقاً، وبناء عليه تصوغ المجتمعات المحلية وتنظم علاقاتها بالمركز. وبالنسبة الى الموازنة اللبنانية التي أقرت قبل اسابيع، وبعد تأخير عن موعد الاستحقاق الدستوري بتسعة أشهر، فلا نجد أياً من المبادئ أعلاه حاضراً، بل ان تجاذبات الساسة في ما بينهم حول قضايا مثل تمويل المحكمة الدولية ومشاريع الكهرباء، غلبت على مناقشات الموازنة بحيث غُيّب المواطن اللبناني، الهدف الأول لهذه الموازنة، وعندما تم الاتفاق على آلية لتمويل المحكمة الدولية، مرت بنود الموازنة كما هي وخلال جلستين سريعتين بعد مخاض طويل. اما القضايا الأساسية التي كانت ستمنح الموازنة البعد التنموي فقد تم التوصل الى توافقات في شأنها افرغتها من مضمونها. فالزيادة في ضريبة القيمة المضافة التي كانت مقترحة من قبل وزير المالية بنسبة 2 في المئة، جرى التراجع عنها، كما وُضعت سلسلة الرتب والرواتب وبرامج الجيش وموضوع الخطة الاستشفائية العامة، خارج الموازنة للبحث عن مصادر لتمويلها. ولا شيء واضحاً بالنسبة لمصادر الايرادات الجديدة، ما يعني ضمناً أن العجز البالغ 1.9 بليون دولار مرشح للارتفاع، إذ ان تنفيذ البرامج المذكورة والتكيف مع المستجدات في سورية، والتراجع المتوقع في بعض مصادر الايرادات مثل السياحة وبعض الصادرات، كلها تعني ان الموازنة ستخرج عن حدود الإطار المالي المرتقب، لكن هناك حالة من التواطؤ من قبل جميع الأطراف السياسية على تمرير هذا المشروع بعد ان أصبح من غير المقبول ان يستمر ملف الموازنة مفتوحاً ولا يُقر، من دون وجود اسباب مقنعة للتأخير، أو من دون ان تقدم المعارضة السياسية داخل البرلمان مشروعاً بديلا. كل هذا يعني أن الخلافات حول الموازنة لا تعدو كونها مناكفات سياسية من شأنها تعطيل اتخاذ القرار، وعدم الاتفاق على بعض السياسات الأساسية التي من شأنها تحسين ظروف المواطن الذي باسمه تتخذ القرارات، وباسمه ايضاً تتعطل. وعند بلوغ عملية الحسم والاتفاق يغيب المواطن، إذ تأجلت مسألة الاجور والاتفاق عليها، وكذلك مشاريع حيوية في مجالات الطاقة والمياه، وتبقى مسألة عمال الكهرباء معلقة، ويتفق الفرقاء فجأة على أن لا نفقات من دون ايرادات، ومع غياب احتمال فرض ضرائب جديدة فإن هذا يعني المراوحة في المكان ذاته. الموازنة في العادة توضع على ثلاث مراحل هي الإعداد والتنفيذ، والرقابة اللاحقة على الانفاق ومدى تحقيقه الأهداف المرجوة من الانفاق. ولم تحظ المراحل الثلاث بالاهتمام اللازم، وبات المراقبون على يقين أن موازنة 2012 لن تختلف في شيء عن الكثير من الموازنات السابقة، فلا حديث عن الحد من الهدر إلا بحدود الحديث العام من دون اجراءات، ولا حديث عن بنود جديدة للتقويم والرقابة، ولا موازنات شعبية تشعر المواطن بعلاقته بالارقام والبلايين وكيف يمكن له تأسيس علاقة مع موازنة الدولة التي تعتبر الوثيقة التنموية الأهم التي تصدرها الحكومات. إيجابية الموازنة الجديدة الأبرز تتعلق بإدراك الساسة أهمية عدم التوسع في الإنفاق العام من دون حدود، وتضمين الموازنة بنداً يُقيد الاقتراض الخارجي ويحصره بتمويل العجز من دون غيره، في مقابل تسجيل الهبات كإيرادات في الموازنة، فيما كانت الحكومات السابقة تتركها خارج حساب الإيرادات. لكن في المقابل بقيت حسابات مجلس الإنماء والإعمار خارج الموازنة، وبقيت بعض الحسابات خارجها، ما يعني أن الاشراف وحاكمية الانفاق العام ستبقى من دون تغيير. تمرير موازنة 2012 في لبنان يعتبر نجاحاً للساسة بالدرجة الأولى، من ناحية قدرتهم على الاتفاق على شيء ما، لكنه لا يحمل اختراقاً اقتصادياً ولا يشكل افتراقاً مع نهج ساد خلال السنوات الماضية لتحقيق بعض المكاسب السياسية من خلال توظيف الانفاق العام، فيما الانفاق الرأسمالي على الطرقات والكهرباء والمياه والاتصالات يبشر بأن الوضع لن يتغير. * باحث اقتصادي في «مركز كارنيغي للشرق الأوسط» - بيروت