لم يدر في خلد إحدى الفتيات السوريات أثناء رحلة هروبها الشاقة من سورية إلى الأردن، أن تتحول بين ليلة وضحاها إلى خادمة تطوف المنازل بحثاً عن ملاذ آمن يمنعها سؤال الناس، وهي التي تتحدر من عائلته مرموقة في حي بابا عمرو في مدينة حمص. تروي هذه الفتاة التي التقيناها عند أبواب أحد المراكز المعنية بتشغيل الخادمات في العاصمة عمان، كيف فرت وشقيقتها الصغرى من دوامة العنف التي تعيشها مدينتها منذ عام ونيف. وتقول: «جميع أفراد عائلتي قضوا خلال القصف الذي استهدف منزلنا الشهر الماضي، بينما كنت وشقيقتي في الخارج». وتتابع بأسى: «استقبلتنا الجمعيات الإغاثية في الأردن، وأهل الخير الذين قدموا لنا كل ما يستطيعون». وتضيف: «قررت العمل خادمة في المنازل والمزارع الخاصة مقابل أجر زهيد». وتستذكر مشهداً لا يفارقها، حينما كانت تحاول تخليص ملابس شقيقتها من بين الأسلاك الشائكة الفاصلة بين الحدود الأردنية- السورية، في ذلك الوقت كان الليل دامساً والموت لها بالمرصاد، لكن تدخل وحدات من الجيش الأردني حال دون ذلك. ولا تختلف قصة زينب (29 سنة) كثيراً عن تلك الفتاة التي تمضي يومها متتبعة التطورات في سورية عبر قصاصات من الصحف، فكلتاهما تجرعتا فصولاً قاسية من التهجير. في مزرعة صغيرة، تعمل زينب خادمة في منزل تعود ملكيته لإحدى العائلات الأردنية مقابل مرتب شهري يصل إلى 150 ديناراً (اي ما يقارب 200 دولار) إضافة إلى تأمين المسكن لوالدها وثلاثة من أشقائها، بعد أن فروا من مصير مجهول. تحاول زينب لملمة مصابها في تلك الغرفة الملبدة بالسواد. وتقول: «لن ننتظر شفقة الآخرين». وتستذكر هذه الفتاة ليل درعا الكئيب الذي هربت منه الشهر الماضي مع آلاف الفارين، وتقول: «سافرنا من بلدة إلى أخرى وانتقلنا من مركبة كبيرة إلى أخرى صغيرة، كانت عملية صعبة بسبب وجود الكثير من نقاط التفتيش وكان الموت يلاحقنا في كل اتجاه لكن الله حمانا». وعلى رغم تقديم بعض الهيئات والجمعيات الخاصة العون للفارين من الجارة الشمالية، فإن الكثير من الشبان السوريين توجهوا إلى البحث عن مهن متنوعة في المدن الأردنية طلباً لعيش كريم. وتغص الشوارع والساحات العامة بإعلانات ورقية لشبان سوريين، اضطرتهم الحاجة إلى البحث عن عمل مهما كان نوعه وقلّ أجره. أحمد الدرعاوي (26 سنة) أحد هؤلاء الذين قرروا الاعتماد على أنفسهم، والعمل في طلاء المنازل. يقول: «صغت عشرات الإعلانات وثبّتها في الشوارع العامة، ووضعت عليها رقم جوالي، وفعلاً بدأ الناس يتصلون بي ويطلبون مني طلاء منازلهم». ويشرح: «لا أطلب الكثير من المال. ما أطلبه هو تكلفة المواد، والحد الأدنى الذي يمنعني من سؤال الآخرين». معتز طلال (28 سنة) فرّ وزوجته وطفله الصغير من موت محتم، مجتازين الأسلاك الشائكة في عتمة الليل، وقد أصبح أجيراً عند أحد أصحاب المولات الكبيرة بعد أن كان مدرساً معروفاً في مدينة حماة، يعلّم الأطفال اللغة العربية! يقول إن «الظروف القاسية هجرتنا إلى الدول المجاورة، لكننا لن نعيش على الصدقات مهما كان الثمن». ويمضي قائلاً: «قدمت حماة فاتورة الدم مرتين، الأولى على يد الرئيس الأب والثانية على يد الابن، هكذا كتب لنا أن نكون». ويروي طلال حكايات صادمة مع الجنود السوريين والشبيحة الذين اقتحموا حيه الصغير في مدينة حماة بداية العام الماضي، ويقول: «كانوا يقتلون الأطفال في الشوارع بدم بارد». وزاد: «أحدهم كان فرحاً وهو يهم بقطع رأس فتاة صغيرة، كانت تحاول الهرب وسط المدرعات وناقلات الجند». ويقول زايد حماد رئيس «جمعية الكتاب والسنّة» المكلفة من الحكومة الأردنية تقديم الخدمات لآلاف اللاجئين السوريين، إن جمعيته «وفرت خلال الشهرين الماضيين أكثر من 1000 فرصة عمل لفتيات وشبان سوريين». ويضيف: «الكثير من هؤلاء يرفضون المساعدات التي نقدمها، ويطلبون البحث لهم عن فرصة عمل». ويوضح أن «عدداً لا يستهان به من السوريات انخرطن في مجال العمل في خدمة المنازل مقابل بضعة دنانير فيما توجه مئات الشبان إلى مهن شاقة، كالحدادة والطراشة وتمديد ورش الكهرباء». ويقول إن أكثر من 140 ألف سوري لجأوا إلى المملكة منذ اندلاع الاحتجاجات في سورية في آذار (مارس) 2011 والتي أدت إلى مقتل ما يزيد على 16500 شخص وفقاً للمرصد السوري لحقوق الانسان.