أضحت تظاهرات ما بعد صلاة الجمعة سمة من سمات مَلْمَلَمة السودانيين من نظام ظل يحكمهم بالحديد والنار منذ 23 عاماً، وها هو في آخر المطاف يطلب منهم شدّ الأحزمة على البطون وأن يتقشفوا، ليدفعوا نيابة عنه ثمن أخطائه في حق وطنهم. وكعادة السودانيين، فإن إبداعاتهم تأتي دوماً تأكيداً لوجدانهم السوداني وانتمائهم إلى هوية خاصة تجمع الأعراق في المكان، وتجعل الجغرافيا بوتقة لانصهار أمة متعددة الشعوب. فها هم ينتفضون ضد الطغيان الذي يحكمهم بمصطلحات مجتمعهم وعاميتهم وتاريخهم، وأحياناً من خَلْقِ الجلاد الذي يسومهم سوء العذاب، فقد كانت جمعة «لحس الكوع»، وهو تعبير قبيح تفوّه به مساعد الرئيس السوداني نافع علي نافع. وكانت جمعة «شذاذ الآفاق»، وهي عبارة سخيفة أطلقها الرئيس عمر البشير على المتظاهرين ضد نظامه. وكانت بالأمس جمعة «الكنداكة»، وهو اللقب الذي كان يطلق على الملكات في الدولة النوبية السودانية العظيمة التي انهارت العام 300 بعد الميلاد، وهي لفتة بارعة للاحتفاء بالنساء السودانيات اللاتي تعرضن لشتى صنوف التنكيل على أيدي أجهزة أمن الحكومة السودانية. ومن عجب أن النظام حاول عرض عضلاته العسكرية نهار الخميس الماضي بتسيير عدد كبير من آلياته وطائراته الحربية في شوارع مدن العاصمة المثلثة. ونشر مئات من عملائه الذين يسميهم المتظاهرون «الرَّبَّاطة»، مثل «شبيحة» النظام السوري و«كتائب» القذافي. يظن البشير ومن معه أن التخويف سيردع المعارضين حتى عن أداء صلاة الجمعة. كيف يرتدع هؤلاء وقد اشتموا رائحة الغاز المسيل للدموع في أسواق مدن العاصمة الثلاث وسُوح جامعاتها؟ وكيف يرتدعون والمئات منهم أصيبوا بالرصاص الحي والمطاطي وهراوات رجال الشرطة؟ أليس من الغباء أن يكرر النظام الأخطاء ذاتها التي أودت بالقذافي وها هي ذي تودي بنظام بشار الأسد؟ تتكرر الأخطاء بحذافيرها: المتظاهرون أجانب! 80 في المئة من المحرضين على التظاهرات يقيمون في الخارج! ويستمر الضحك على الذقون من خلال الأكاذيب البلقاء التي يتفوه بها قادة النظام السوداني وأذياله: متوسط دخل الفرد السوداني 1800 دولار! إجراءات حكومية لتخفيف عبء الفقر وإعانة المواطنين. مزاعم لم يعد فيها ما يُضحك الجمهور الذي يُرغم على تلقيها، من شدّة ما تواترت الأكاذيب، وتتالت تصريحات الاستغفال والاستعباط، ومحاولات التخدير والتلاعب بعقول البسطاء من شعب السودان. أخبار سيئة لنظام الفضائيات العشر: الثورة مقبلة لا محالة. قد تأتي بغتةً وهبَّةً واحدةً، فلا تُبقي ولا تذر. لكنها قد تأتي أيضاً متواصلةً في تباعد، ومتناميةً في نمط هرمي يتضخم كل يوم جمعة. لقد كسر الشباب والتلاميذ ومرتادو الأسواق حاجز الخوف، وعرف كل منهم أن من يجود بدمه وروحه في ساحات التظاهر يروي بدمه بستان الحرية، وينير بشهادته الطريق أمام أجيال من أبناء وطنه ليستعيدوا نهضة أخلاقهم وتعليمهم وتماسك مجتمعهم. الفضائيات العشر تغنَّي وتهللَّ وتستضيف شاشاتها ذات الوجوه التي يكاد كل منها يقول: خذوني. الفضائيات الحكومية العشر تؤكد أن النظام باقٍ، لكن هتافات المصلين بعد صلاة الجمعة، وصرخات النساء تحت وطأة هراوات الشرطة، وشهقات المختنقين بالغاز المسيَّل للدموع... كلها تقول العكس: الثورة حق، والنظام باطل. والتغيير آتٍ لا ريب، والنظام ذاهب. وتجري المشاورات على أشدها بين شبان الثورة السودانية وشاباتها لتكوين لجان لتنسيق أنشطة الثورة في مدن السودان وبلداته الكبيرة، لتكثيف الضغوط على النظام الذي لا يزال يعتقد بأن بوسعه التلويح بورقة «الدستور الإسلامي» وتطبيق الشريعة المسيَّسة المفصّلة على مقاسه. وهي الورقة ذاتها التي «نزل» بها (بلغة حرفاء لعب الورق) مراراً، حتى تكشَّفت للناس جرائمه الفظيعة بحق الأنفس والولد والثمرات. ولم يعد يستطيع أن يثير بها غريزة أي سوداني ناقم على الوضع الذي أوصله إليه هذا النظام، من مشقة في العيش، وهدْرٍ في الموارد، وتضييق في الحريات، وعبث بالمؤسسات التعليمية، والخدمات الصحية والبلدية. صحيح أن بوسع النظام، إن بقي فيه عقلاء، أن يعمد إلى حَقْن الدماء بالذهاب من تلقاء نفسه، وإعادة الأمر إلى إرادة الشعب، لكن الثوار – خصوصاً الصغار والشباب – عاقدون العزم على أن أخطاء وجرائم الأعوام ال 23 الماضية لا بد من محاسبة مرتكبيها. ولا تقتصر تلك الأخطاء على السياسات المغلوطة، والقرارات الظالمة، بل تتصدرها حقوق أولياء الدم الذين أريقت دماء أبنائهم وبناتهم بدم بارد على أيدي عملاء أمن النظام. وهي حقوق لا تسقط بالتقادم، ولا يسري عليها عفوٌ عما قد سلف، بل هي ملفات ينبغي أن تُفتح منذ العام 1989 حتى آخر يوم في عمر النظام البغي. تليها جرائم نهب المال العمومي، وهو حق لكل سوداني، طفلاً وشاباً ورجلاً وكهلاً. وهي أموال أُكلت بالباطل، وتم تهريب شيء ليس باليسير منها إلى بنوك واستثمارات خارجية. وبإرادة الثوار الصبورين ستتم مطاردة تلك الأموال، وملاحقة سارقيها أنّى طاب لهم المقام خارج السودان. وتأتي بعد ذلك جرائم التشريد من الخدمة، والإقصاء من الأسواق والصفقات، وبيع المؤسسات الحكومية، وممارسات شركات الأجهزة الأمنية، والمديونية الخارجية للسودان، والخراب في أنظمة التعليم والصحة والخدمة المدنية. تبدو كلها مهمات شاقة وضخمة. لكن هذه هي الغاية الحقيقية للثورة السودانية. إنها حجر الأساس لعمارة المستقبل. نقطة الارتكاز لانطلاق ديموقراطية حكم القانون والدستور الذي يردع «شذاذ الآفاق» عن أي محاولة جديدة لسرقة التاريخ والجغرافيا والمستقبل. * صحافي من أسرة «&». [email protected]