في لحظة ذكاء تلفزيوني نادرة أجابت مذيعة قناة «الجزيرة» النائب السوري شريف شحادة عندما تساءل عن أسباب فرار «الفاسد مناف طلاس من سورية» قائلة: «وعلينا ان نتساءل أيضاً عن سر تجرؤك على وصفه بالفاسد بعد كل هذه السنوات من الصمت على فساده». هذه الواقعة تلخص على نحو كوميدي أحياناً ومأسوي في أحيان أخرى مأزق خطاب الممانعة، بعد تصدع مركزه في دمشق بفعل الثورة السورية. وقد يكون في ضم شريف شحادة الى المنظومة النظرية لخطاب الممانعة مقدار من المبالغة، ذاك ان جهداً مطلوباً لم يبذله الرجل في سبيل هذا الانتماء، لكن الدرك الذي وصلت اليه الممانعة في تخبطها لا يعوق ضمه الى «بنيتها الفوقية». فالوقاحة التي ينطوي عليها فعل نقل دولة قطر من موقع «إمارة المقاومة» الى «إمارة المؤامرة»، فقط لأنها بدلت موقفها من النظام السوري، تكشف عن ضحالة هذا الخطاب. والسهولة التي يجري فيها الآن نقل حركة حماس من «ذروة الصراع» الى «ذروة الخنوع» تنطوي بدورها على حقيقة تتمثل في ان الممانعة لم تكن أكثر من قناع للاستبداد ولإخضاع المجتمعات الى فساد مقيم في أصل «النظرية». مناف طلاس صار فاسداً. تخيلوا... مناف طلاس فاسداً! كيف لنا ان نُصدق ذلك، فقد دأبنا على قراءة صحفكم طوال عشرات السنين، وكان فيها الرجل نسراً، وتعوزنا عشرات أخرى من السنين كي ترسخ في وجداننا حقيقة فساده. والحال ان الإصابات التي لحقت بخطاب المقاومة والممانعة بليغة الى حد يصعب معه ترميمها، فعملية اعادة انتاج هذا الخطاب لن تستقيم من دون سلطة تتولى فرض ثقافته في منظومة خضوع اجتماعي وقيمي. «الثقافة» لا تستطيع القيام بالمهمة وحدها، الأمر يحتاج الى سلطة، وها هي السلطة تتداعى اليوم في دمشق. ايران لا تصلح للمهمة لأسباب قومية وطائفية وجغرافية. يمكنها ان تكون سنداً وظهيراً، لكن المجتمع الذي يجب اخضاعه والاستبداد به يجب أولاً ان يكون سنّياً، ذاك ان فلسطين سنية، ومن المفضل ثانياً ان يكون محاذياً للقضية بالمعنى الجغرافي، ويجب ثالثاً ان يرطن بالعربية ويُفكر بالعربية. وسلطة الممانعة والمقاومة المستبدة، تلك التي تقيم في دمشق، جعلت سورية مادة الممانعة الصلبة. الممانعة هناك مناهج تعليمية وقوانين اقتصادية وممارسة يومية، وهي بهذا المعنى استبداد وفساد، فيما هي في لبنان والأردن والعراق وفلسطين مجرد قيم وأفكار ملتقطة من محطة البث في دمشق. خلل طفيف في المحطة الرئيسة سيفضي الى تشويش في الترددات الملتقطة في المحيط. انشقاق مناف طلاس أفضى الى انعدام في توازن الخطاب، وها هو الرجل صار فاسداً بعدما كان قبل يوم واحد نسراً. اذاً الخطاب يفقد توازنه على نحو مأسوي، ويُخلف في تخبطه مفارقات مدهشة من نوع ما أصابنا مع طلاس ومع غيره. لكن تداعيه يحمل وجوهاً كثيرة، ذاك ان الحروب الأهلية النائمة في ثناياه ستستيقظ بفعل احتضار والدها، وسينجم عن هذا الاستيقاظ تحول شيطاني يشبه الى حدٍ كبير تلك التحولات التي تصيب الشخصيات في أفلام الكرتون او الرعب المتخيلة. فالفرز سيكف عن كونه صراعياً وسيصبح أهلياً. مناف طلاس وخالد مشعل سُنّيان، وعزمي بشارة ذمي عندهم، اما فلسطين، اذا ما ذهبنا بال «فيكشن» الى أقصاه، فلن تكون بعد الآن وجهة جيش المهدي، ومن المرجح ان يستعيدها مرة أخرى صلاح الدين الأيوبي. ووسط هذه الفوضى الجديدة ثمة حقيقة اسمها فلسطين، ذاك انها قضية وليست وهماً على نحو ما صوّرها خطاب الممانعة المحتضر. والثورة في سورية فرصة حقيقية لتحويل فلسطين من «خطاب استبداد» الى قضية حقيقية. فرصة كي يستعيد الفلسطينيون فلسطينهم من احتلالين. احتلال اسرائيل أرضهم واحتلال خطاب الممانعة عقلهم. وبما أننا في مجال التخيل، فإن تبسيط القضية عبر نزع الخيوط الإقليمية والدولية عن الصراع، وتحويله صراعاً وطنياً تتقدم فيه المصلحة الفلسطينية المصالح السورية والايرانية وقبلها المصرية والعراقية، سيجعل الحق الفلسطيني حقاً أوضح وأكثر جلاء ونقاء، ما يعطي فرصاً فعلية للإنجاز. ولنا على هذا الصعيد ان نستعيد تجربة الانتفاضة الفلسطينية الأولى وإنجازاتها، بصفتها انتفاضة وطنية، وأن نقارنها بالانتفاضة الفلسطينية الثانية وإخفاقاتها، بصفتها انتفاضة اقليمية في فلسطين. لن تُدان الدعوة لإعادة العقل الى الصراع والى القضية، اذ ان المصلحة الفلسطينية وحدها ستكون حاضرة. نعم العقل في خطاب الممانعة مدان، ذاك انه قد يكشف ما ليس مستوراً عن حقيقة الموت المقيم فيه. فلسطين ستكون قضية العقل الفلسطيني، وليست قضية دهاء المستبدين العرب. وكم يبدو ذلك سهلاً ومستحيلاً. ولكن، ليس احتضار الخطاب فرصة لفلسطين فقط، انما أيضاً لمعظم الدول التي تخبطت في عنف هذا الخطاب. لنتخيل لبنان مثلاً بعد تداعي ذلك الوهم المستبد. ليست الجنة بانتظار اللبنانيين في اعقابه طبعاً، لكنهم سيقفون بمواجهة بعضهم بعضاً من دون أقنعة. «حزب الله»، المتخيل وليس الواقعي، سيكون ممثلاً لمصالح الشيعة اللبنانيين، وليس لمصلحة محور اقليمي، وتيار المستقبل أيضاً سيتخفف من «التزاماته» الطائفية، والمسيحيون سيتخلون عن اوهامهم المشرقية المستجدة. ايران ستكون نفسها، ولن تكون امبراطورية «الوعد الصادق». لن يسعفها خطاب الممانعة في تظهير دعمها «حزب الله» بصفته انخراطاً في المواجهة الكبرى. هي فقط جهة استأجرت قطعة أرض على الحدود العربية - الإسرائيلية بغية استثمارها في تعزيز موقعها. لا بأس ببعض التخيّل في ظل ما يجري... فالثورات مملوءة بالأوهام الجميلة، وإن كانت لا تخلو من أخطار.