لا يخفي أهالي قرية غندار الأفغانية دهشتهم إزاء انتفاضهم على حكم «طالبان». فهم لم يعهدوا في أنفسهم القيام على سلطات الأمر الواقع. وبدأت الانتفاضة اثر صلاة العشاء، مساء الأحد الأخير من أيار (مايو) المنصرم. يومها تجمع عشرات الرجال أمام المسجد للدردشة وتناول الشؤون المحلية، لكن حديثهم انزلق إلى الشكوى من «طالبان»... «فنحن أيدنا الحركة هذه طوال عشرة أعوام لكنها لم ترد لنا الجميل. وهي لا تسمح لنا بإرسال أولادنا إلى المدرسة أو إلى مستشفى المقاطعة. وربما ستطلب منا وأد بناتنا الصغيرات لئلا تذهبن إلى المدرسة أو تخرجن إلى العمل في المكاتب أو تمشين حاسرات»، يقول رجل مسن. وأدرك أهالي غندار يوم تجمعوا وتكلموا عن حركة «طالبان» أنهم سئموا حكمها العنيف وسياساتها الرجعية. فقصدوا زعيم «طالبان» المحلي، الملا عبد الملك، وهو رجل في مقتبل العمر غير متطرف. فوافق عبد الملك الأهالي، ورأى أن قرار «طالبان» إغلاق المدارس خاطئ، ووعدهم برفع هذا الحظر. وأرسل مساعده إلى كويتا، عاصمة «طالبان» في المنفى، لتحذير قادتها من غضب السكان واستئذانهم لفتح المدارس. لكن أولويات قادة «طالبان» ومقاتليها مختلفة عن أولويات الناس. فعلى سبيل المثل، ألغيت حملة تلقيح ضد شلل الأطفال في شمال وزيرستان، إثر إعلان زعيم «طالبان» الباكستانية حظر تلقيح 161 ألف طفل باكستاني في سن دون الخامسة إلى حين وقف الولاياتالمتحدة هجمات الطائرات من دون طيار. وفي ميزان «طالبان» لا وزن لمصالح الناس والأطفال، ولا تملك الحركة سياسة تعليمية، فهي تمنع تعليم الفتيات، وتسمح بتعليم الفتيان. وفي إقليمي كونار ونوريستان، ارتاد الفتيان المدارس طوال العقد الماضي من غير حظر أو تحفظ. ولكن في بعض مناطق الجنوب والشرق، تشرّع أبواب المدارس القرآنية للفتيان، في وقت أغلقت أبواب المدارس «العلمانية» (مدارس العلوم الوضعية) أبوابها أمام الفتيان والفتيات على حد سواء. وفي نيسان (أبريل) الماضي، قرر قادة «طالبان» في كويتا إغلاق المدارس في غازني للاحتجاج على حظر الحكومة الدراجات النارية، وهي أبرز وسيلة نقل يستخدمها مقاتلو «طالبان» وشطر راجح من الأفغان في إقليم غازني المضطرب. وأغضب قرار الحكومة الأهالي لحرمانهم من وسيلة النقل هذه، لكن سخطهم انصب على «طالبان» اثر حرمان أولادهم من الدراسة. وقصد ممثل عبد الملك كويتا، وطلب من زعيم «طالباني» إعادة فتح المدارس. وفي وقت أول، وافق الزعيم هذا، لكن أبواب المدارس بقيت موصدة. ويرى مصدر مقرب من مجلس شورى كويتا أن المتطرفين فيه أجمعوا على جبه عبد الملك، المسؤول المحلي الذي انحاز إلى الأهالي عوض تغليب كفة زعماء كويتا والاستخبارات الباكستانية من ورائهم. فعلاقات المتطرفين هؤلاء وطيدة بهذه الاستخبارات. وبعد أيام على احتجاج أهالي غندار، زار عشرة مسلحين «طالبانيين» من محافظة مجاورة عبد الملك، ونزلوا ضيوفاً مفاجئين عليه، واستقبلهم خير استقبال على ما جرت عادات البشتون. لكن الزوار باغتوا المضيف وحراسه، واعتقلوهم. وصباح اليوم التالي، تجمع الأهالي أمام المسجد للاحتجاج على اعتقال عبد الملك وشقيقه الأكبر، رحمة الله الذي سجن عامين في كابول إثر اعتقال القوات الأميركية له في 2007. وأثناء التجمع الاحتجاجي، دخل البلدة عشرون مقاتلاً «طالبانياً» على متن دراجات نارية، وأطلقوا العيارات النارية في الهواء «كما لو أنهم يفتحون بلاد المشركين»، يقول قروي حانق. وأجج استعراض حركة «طالبان» عضلاتها غضب الأهالي. وتصدى عبد الصمد، وهو قروي مسن لحيته بيضاء طويلة، لأحد المقاتلين الشباب، وصفعه على وجهه، وجذبه من شعره، ووبخه على إطلاق النار. فارتبك الشاب، وهو في السابعة عشرة، وأطلق النار فأرداه. وهاجم الجمع الغاضب الشاب ونزع سلاحه، وزعم الأخير أن قتله الشيخ كان حادثة، لكن الأهالي لم يصدقوه. وفقد أثره من يومها. ويصف محمد عيسى، وهو قروي شهد الحادثة، مقاتلي «طالبان» ب «أولاد البنجاب الذين لم يرضعوا من أمهات أفغانيات». ويحتفي القرويون بما يعتبرونه نهاية حكم «طالبان» في غندار. «فهم ينامون (مقاتلو طالبان) في بيوتنا ويتناولون طعامنا باسم الإسلام، ولا يحركون ساكناً لتذليل مشكلاتنا. سئمنا عدم مراعاتهم مصالحنا»، يقول محمد عيسى. ويبدو أن المقاتلين الذين سبق لهم مواجهة القوات الأميركية والأفغانية المشتركة وكسر شوكتها، يقفون اليوم عاجزين أمام الأهالي. «فالطالبانيون لا يجرؤون بعد اليوم على دخول القرى الغاضبة، والناس يكرهونهم ولن يتوانوا عن تسليمهم إلى الأميركيين أو الحكومية». سرت عدوى الانتفاضة الأهلية من قرية إلى أخرى. ففي اليوم الذي شهد المواجهة بين الأهالي و «طالبان» في غندار، تظاهر أهالي قرى مجاورة منددين بالحركة. وعلى نحو ما حصل في غندار، وفد مقاتلون غرباء إلى هذه القرى، وحاولوا قمع المتظاهرين. لكن القرويين، وشطر راجح منهم يملك قطع سلاح فردية للدفاع عن البيوت، نجحوا في دحرهم، ورصوا صفوفهم في ميليشيا محلية منظمة بلغ عدد عناصرها 150 مقاتلاً في أسابيع قليلة. وأقسم هؤلاء الرجال على السعي إلى تحرير عبد الملك، وفتح أبواب المدارس، وتفويض حكماء القرية البت في مسائل التعليم والصحة والتنمية. «نحن نريد حكم الأكبر سناً في القبائل ومجالس محلية»، يقول معمر جبار شلغاري وهو نائب سابق عن غزني. وفي الأعوام الماضية، هددت «طالبان» بقتل النواب السابقين أو الحاليين إذا عادوا إلى مسقط رأسهم في القرى. وبسطت الميليشيا المناوئة للحركة المتطرفة سلطتها على 20 في المئة من أندار، القضاء المحيط بغندار، بحسب الحاج خان محمد، وهو رجل مسن من المنطقة. وينظم هؤلاء المقاتلون وأحد مساعدي عبد الملك دوريات في 10 قرى. وترتب على توسع نفوذ هذه الميليشيا سقوط عدد من القتلى في صفوفها وصفوف «طالبان» بلغ عددهم حوالى عشرين. وأسر المتمردون المنتفضون أخيراً فرقة كاملة من مقاتلي «طالبان»، و17 من هؤلاء الأسرى باكستانيون من منطقة القبائل. ويقول الحاج أمين الله، وهو من مقاتلي الميليشيا، إن إطلاق الأسرى رهن الإفراج عن عبد الملك وانسحاب «طالبان» الكامل من القرى. ويقال أن «طالبان» حررت الأسرى إثر شنها غارة على مكان احتجازهم. وأعلن قادة الحركة أنهم لن يصدعوا بمطالب القرويين، و «لا نكترث بانضوائهم تحت راية الحكومة. فجهادنا مستمر إلى الأبد، ونحذرهم من غضبنا، وسنستخدم القوة ضدهم ونعلمهم درساً لن ينسوه. الدماء ستسيل»، يقول الملا برهان، زعيم «طالبان» من أندار. أوجه الشبه كبيرة بين انتفاضة القرويين الأفغان واستراتيجية التحالف الدولي الرامية إلى تجنيد قوات محلية معادية ل «طالبان» تمهيداً لانسحاب القوات الأميركية وقوات «الناتو». ففي عدد من المحافظات الأفغانية، تدرب قوات التحالف ميليشيات، وتسلحها لتدافع عن قراها والحؤول دون عودة «طالبان»، لكن القوات الأميركية لم تتدخل في حوادث غازني، وهي تقف موقف المتفرج. وطفح كيل أبناء القرى من الأميركيين وحكومة حامد كارزاي و «طالبان»، وملوا الحرب وفصولها. «نحن لا نؤيد الأميركيين ولا الحكومة ولا طالبان. نريد أن نوفر مستقبلاً واعداً لأطفالنا... الأميركيون غزاة وعليهم المغادرة. وعلى طالبان التغير، فالناس تغيرت، واختبرت التطور والتكنولوجيا وذاقت طعم المعرفة»، يقول زعيم ميليشيا غندار. لكن قوة الثوار المنتفضين لم يشتد عودها بعد، ويرجح أن تعود قوات «طالبان» للانتقام، وإحكام قبضتها على المنطقة. ففي الأسبوع الماضي، أضرمت الحركة النار في منزل والد عبد الملك. * مراسل، عن «نيوزويك» الأميركية، 2-9/7/2012، إعداد منال نحاس