في سياق قمة البيئة «ريو+ 20» التي يسود شبه اتفاق على وصولها إلى حائط مسدود، صدر تقرير عن «برنامج الأممالمتحدة للبيئة» عنوانه «نحو اقتصاد أخضر: مسارات إلى التنمية المستدامة والقضاء على الفقر». وحاولت قمة «ريو+20» التركيز على الاقتصاد الأخضر، لكنها لم تستطع التوصّل إلى اتفاقية ملزمة في شأنه. وأعرب آشيم شتاينر المدير التنفيذي ل «برنامج الأممالمتحدة للبيئة» عن قناعته بأن الاقتصاد الأخضر لا يفضل وجهة نظر سياسية معينة بل يناسب أنواع الاقتصاد كافة، سواء ما تديره الدولة أم تحكم به آليات السوق. وبيّن أن الاقتصاد الأخضر ليس بديلاً للتنمية المستدامة، بل طريقة لتحقيق التنمية مع مراعاة أهداف الألفية الثالثة. وتحدث تقرير «نحو اقتصاد أخضر...» عن أزمات المال والطاقة والغذاء، واصفاً هذا العصر بأنه زمن إساءة توظيف الموارد. وأشار إلى تباين أسباب هذه الأزمات، مع تقاطعها عند مستواها الأساسي في صفة مشتركة هي الإساءة الشديدة في عمليات تخصيص الموارد. وشدد على إغداق كثير من رؤوس الأموال في العقدين الأخيرين على العقارات والوقود الأحفوري، بينما استُثمِرت أموال قليلة في الطاقة المتجددة والمواصلات العامة وخفض استهلاك الطاقة والزراعة المستدامة وحماية النظام الإيكولوجي والتنوّع البيولوجي. ولاحظ التقرير أن مجال الأعمال انتفع على حساب البيئة والمجتمع، مشيراً إلى تشجيع معظم استراتيجيات التنمية الاقتصادية للتكديس السريع لرؤوس الأموال (مادياً ومالياً وبشرياً)، على حساب تناقص رأس المال الطبيعي. وأثار أسئلة مهمة عن المسؤولية الاجتماعية لرأس المال، إذ لا يُطلَب من الأسواق الحرة أن تحلّ مشاكل المجتمع، على رغم أن ناتج هذه الأعمال تذهب إلى فئة محددة من الناس ولا تعم قطاعات المجتمع كلها. مثلثّ أخضر خلص التقرير عينه إلى ثلاث نتائج رئيسية تتعلق بالاقتصاد الأخضر أولها أن الانتقال إليه يولّد زيادة في الثروة المادية كما يحقق مكاسب في رأس المال الطبيعي. وتتمثّل النتيجة الثانية في تشابك العلاقة بين مكافحة الفقر والحفاظ على رأس المال الطبيعي. وتلاحظ ثالثها نشوء وظائف جديدة عند الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر، على رغم فقدان بعض الوظائف أثناء عملية الانتقال، ما يفرض ضرورة الاستثمار في إعادة تنمية المهارات وإعادة تأهيل القوى البشرية العاملة. وفي تفاصيل هذه النتائج، تناول التقرير علاقة الاقتصاد الأخضر بتخفيض الفقر المستديم وانعدام العدالة الاجتماعية والتفاوت في فرص التعليم والرعاية الصحية والحصول على دخل مناسب للمواطنين جميعاً. ورأى التقرير أيضاً أن الاقتصاد الأخضر يقدّم حلولاً لهذه المشاكل عبر توفيره فرصاً متنوعة للتنمية الاقتصادية والتخلص من الفقر، من دون استنفاد الأصول الطبيعية. وشدّد على أهمية هذه الأمور للدول المنخفضة الدخل التي يعتمد سكانها المحليون على خدمات النظام الطبيعي وموارده. وضرب مثلاً على هذا الزراعة في الدول النامية، ملاحظاً وجود قرابة 525 مليون مزرعة صغيرة عالمياً، معظمها في هذه الدول. واستنتج بأن تبني هذه الدول لطُرُق الزراعة المستدامة يتيح مزيداً من الطعام للفقراء، ويتيح لهذه المزارع أن تُنافس في الأسواق العالمية. وبسط التقرير مراجعة عن مشروع لرصد أفضل الممارسات في الزراعة المستدامة، شملت 12 مليون مزرعة. ولاحظ أن هذه المراجعة أظهرت أن الحفاظ على الموارد الطبيعية في الزراعة نتجت منه زيادة في المحصول بقرابة 79 في المئة. وتشمل ممارسات الزراعة المستدامة الإدارة المتكاملة لمكافحة الآفات والحشرات، واعتماد الزراعة القليلة الحرث، وزراعة الأشجار على حوافي المزارع، وتكامل حصاد المياه مع الماشية، وهي أمور تساهم أيضاً في رفع جودة التربة. وحظي دور الاقتصاد الأخضر في حل مشكلة التوظيف بمساحة كبيرة في هذا التقرير الذي اعتبر أن الوظائف الخضراء من أهم مكوّنات هذا الاقتصاد. وتوقّع التقرير أيضاً أن تشهد قطاعات الزراعة والمباني والغابات والنقل نمواً في الوظائف يفوق نظيره في الاقتصادات التقليدية. ودلّل على هذا التوقّع الذي يمتد إلى عام 2050، بالإشارة إلى إمكان زيادة التوظيف عالمياً في العقد القادم ب4 في المئة، والاستثمار في الحفاظ على الغابات وإعادة تأهيلها بقرابة 20 في المئة، وزيادة فرص العمل ب10 في المئة. واعتبر أن تحسين كفاءة استخدام الطاقة في المباني يستطيع أن يوفر ما يتراوح بين 2 و3.5 مليون وظيفة جديدة في أوروبا والولايات المتحدة وحدهما. وأورد التقرير أن الطلب على المباني الجديدة والمستشفيات والمدارس في الدول النامية، يزيد فرص النمو، مشيراً إلى أن الوصف عينه ينطبق على إدارة المُخلّفات الذي قد تصل زيادة الوظائف فيه إلى 10 في المئة. ولفت الى أن الوضع قد يختلف قليلاً بالنسبة للمياه والمصائد لأن «تخضير» هذين القطاعين يحتاج وقتاً طويلاً، لكنه أمر محتّم نظراً إلى الحاجة للمحافظة عليهما، مشيراً إلى أن استنزاف مصادر المياه والثروة السمكية يقلّل فرص العمل على المديين القصير والمتوسط. مُدُن تُصالح البيئة وتناول التقرير ظاهرة «المُدُن الخضر» معتبراً أنها تتيح فرصاً كبيرة جداً في التوظيف. وذكر أن قطاع البناء من أكبر القطاعات المساهمة في انبعاث الغازات المُسبّبة لظاهرة الاحتباس الحراري، مُلاحظاً أن ثلث الاستهلاك النهائي للطاقة يحدث في المباني، مع الإشارة إلى إمكان تقليل الانبعاثات في هذا القطاع بطرق منخفضة التكلفة وباستخدام تكنولوجيات موجودة حالياً. وحمّل التقرير قطاع الإنشاءات مسؤولية استهلاك ما يزيد على ثلث الموارد المادية، وضمنها 12 في المئة من إجمالي استهلاك المياه العذبة، مع مساهمته في توليد 40 في المئة من النفايات الصلبة. وأشار التقرير إلى أحد السيناريوات التي أعدتها «الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ» وهو يتوقع أن تتضاعف البصمة البيئية لقطاع المباني لتصل إلى 15.6 بليون طن مكافئ من ثاني أكسيد الكربون بحلول 2030 ما يعادل ثلث إجمالي الطاقة المتّصلة بانبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون. واعتبر التقرير أن هذه الأرقام تؤكد ضرورة تخضير هذا القطاع، مع التشديد على ترشيد استهلاك الموارد، ليصبح مكوّناً أساسياً في الاقتصاد الأخضر. وأولى التقرير اهتماماً واسعاً بالغابات، مشيراً إلى أن الاستثمار في استعادتها وتأهيلها يزيد من القيمة المضافة في صناعة الغابات بما يزيد على 20 في المئة، مع رفع الكربون المُخزّن في الغابات بصورة كبيرة، إلى جانب إتاحة مزيد من الوظائف. وإذا أُخذت نقاشات قمة «ريو+20» في الاعتبار، يصبح ضرورياً طرح سؤال عن طُرُق قياس التقدّم نحو الاقتصاد الأخضر؟ وقد قدّم هذا التقرير إجابة عن هذا السؤال مفادها أن التوصل إلى هذه النتائج يأتي عبر تقويم دقيق للتغيرات الحاصلة في أرصدة رأس المال الطبيعي، مع إعطائها ما يوازيها مالياً، على أسس نظام المحاسبة البيئية والاقتصادية الذي تنهض به شعبة الإحصاءات في الأممالمتحدة. ودعا التقرير إلى التوسّع في استخدام هذه المقاييس. ولخّص تأثير تخضير الاستثمارات بالمقارنة مع الطرق التقليدية في العمل، بأنه يحسن الأداء الاقتصادي على المدى البعيد، وكذلك يستطيع أن يزيد من إجمالي الثروة، مع زيادة مخزون الموارد المتجددة وتقليل المخاطر البيئية، ما يساهم في تحقيق الرفاهية مستقبلاً.