في ديوانه الجديد «تفاحة لا تفهم شيئاً»، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، لا نعرف إن كان الشاعر المصري جرجس شكري حكيماً جاء يلقي بنبوءاته على الأرض، أم شاعراً يتأمل تاريخه الشخصي في هيئة تراتيل صغيرة، لكنها تراتيل لا تحترم التقاليد بمقدار ما تنتهك الكثير من ثوابتها الراسخة. يمزج شكري بين همه الشخصي، ووحدته الاجتماعية، وبين الثقافة التي نشأ في أحضانها، موجداً نوعاً من الترانيم التي تدعو إلى الثورة على المعتاد والمستقر، في ظل حال الثبات التي تهيمن على كل ما يحيط به: «عزيزي/ هذه يدي خذها/ عندي أخرى/ لقد سئمت التكرار/ هذا رأسي/ فلنتقاسمه معاً/ أريد أن أتخلص من نصف العالم/ سأجر أقدامي إلى مدينة أخرى/ وأعلمها أن تجهل الطريق/ حتى لا تقودني وفقاً لمزاجها/ سأمنح الحيوان الصغير/ لأول امرأة التقي بها/ سأعيش بيد واحدة/ ونصف رأس/ مع أقدام جاهلة/ وبلا غرائز». في هذا الديوان نجد أنفسنا أمام إحدى عشرة قصيدة تتراوح بين الطول والقصر، بين المشهد الواحد أو المشاهد المركبة، بين اللغة الكنسية الهادئة في تراتيلها والنبوءات المحذرة من المستقبل بناء على ماض مؤلم. في هذه القصائد لا نقف أمام التفاصيل والوقائع، لكننا نواجه لغة بسيطة وانتقالات سريعة وعبارات في كثير من الأحيان جازمة أو ذات سماوات مفتوحة على التأويل، لا نعرف إن كان صاحبها يسعى إلى رصد حالة نفسية على هيئة ملاحقة الكوابيس أو استعادة الأحلام المنفلتة، أم أنه يرغب في نقض موروثات ثقافية مستقرة كأيقونات مقدسة، على رغم حاجتها إلى إعادة النظر فيها، بعدما تجاوزها الواقع، وبات حضورها فولكلورياً أكثر منه إطاراً روحياً يستمد منه أصحابه القدرة على الحياة ومواصلة العمل. يواجه جرجس شكري نفسه سواء على المستوى الفيزيقي أو الثقافي، مستخدماً السخرية من حضوره المعتاد كما لو أنه إحدى المفردات الطبيعية في الحياة، على رغم أنه في الواقع قد لا يكون موجوداً، وقد يكون ثمة خلط جعله يتوهم هذا الحضور الدائم: «هكذا صار يحلم/ أنه يضع على مائدة عظيمة/ بيوتاً بلا سكان، وأشجاراً عارية/ في حين اختفت الأرض/ قدماه لا تذهبان/ وثمة نار تفكر في رأسه/ لا تصدقوه/ هذا رجل/ استيقظ من نومه فوجد المرآة خاوية». يتقاطع شكري في هذا الديوان بوضوح مع الثقافة المسيحية، وتكاد تبرز بعض الآيات كاملة في سطوره الشعرية، ويكاد بعض القصائد يعمل على حدث إنجيلي معين، كما لو أنه يسعى إلى استعادة هذه الثقافة من مكمنها للتعامل الفني معها، لكنه لا يقدمها كتقليد راسخ وفق الثقافة المسيحية، تقليد إيجابي يجب تناقله من جيل إلى جيل كما هو، ولكن كتراث إنساني قابل لإعادة التشكيل. فالكلمة المقدسة ليست دائماً مقدسة، فلها أفواه وآذان، وبعضها مغشوش أو مستعمل، وربما انتهت صلاحيته، وبعضها، وفق ما يقول شكري، «يمرض وينام على الأرصفة». لم يكن الحس السياسي غائباً عن جرجس شكري في هذا الديوان، فهو، كغيره من شعراء قصيدة النثر، تخلص من زيف مقولة أن قصيدتهم غير معنية بالقضايا الكبرى. لكن شكري في تناوله الحس السياسي وسخريته حتى من شخص الرئيس المصري الجديد بوضوح، لم يتوقف أمامه لينسج تفاصيل مشهد كامل، فقد مر عليه بنظرة علوية تليق بمنطق التراتيل الذي اعتمده في ديوانه، مكتفياً بأن ذكره وأعوانه في مشهد يبدو كما لو أنه حدس بانتخابه ومشاركة الجيش له في السلطة، واستمرار رؤساء تحرير الصحف أنفسهم في عملهم: «الرئيس في الصفحة الأولى/ يبتسم ويحدق في الشعب/ الجنرال إلى جواره يؤنب القارئ/ وفي رأس الصفحة/ رئيس التحرير يكذب ويطلب المغفرة». على هذا النحو تجيء السياسة في شكل يبدو ساخراً تارة، وسوريالياً تارة أخرى: «أحلم أنني أخبز دولة/ وأمنحها للمساكين/ بعد أن تصبح كعكة كبيرة/ يفوح منها البخور/ كعكة في حجم الدولة/ شهية وكبيرة/ والشعب يرقص/ بعد أن أكل الدولة/ حتى رأسها». لكنها ليست سوريالية الأحلام بمقدار ما هي أمنيات شاعر ذي موقف يتمنى فيه أن تتحقق الديموقراطية، وأن تكون الدولة للشعب وليس للزعيم أو الديكتاتور وحده. لجرجس شكري أربع مجموعات شعرية سابقة (بلا مقابل أسقط أسفل حذائي، رجل طيب يكلم نفسه، ضرورة عضة الكلب في المسرحية، والأيدي عطلة رسمية)، وعلى رغم أنها عناوين تبدو لافتة للسمع، إلا أن شكري هو واحد من الشعراء الذين يجيدون اختيار عناوين أعمالهم. فثمة إشكالية بين العمل وعتبته الفنية، فدائماً لا يدل العنوان على المحتوى، وكثيراً ما يبدو مضللاً، وفي بعض الأحيان يتم اختياره من القصيدة الضعيفة فنياً مثل «تفاحة لا تفهم شيئاً»، ما يربط بين القصيدة والديوان ككل، ويضع العمل في سياق غير مفهوم ك «ضرورة عضة الكلب...»، و «الأيدي عطلة رسمية»، أو كما هو حادث في هذا الديوان، على رغم أنه يضم قصائد بعناوين تصلح لأن تكون مداخل محفزة على القراءة: أسباب تخص التاريخ، صورة مريم، رسالة أعادها ساعي البريد، قداس لراحة الموتى.