ربما يكون من المستحيل العثور في تاريخ الفن، وفن الرسم في شكل عام، على فنان يمكن متابعة تحولات مزاجه الخاص، يوماً بيوم، من خلال أعماله الفنية نفسها، كما هي الحال مع فنسان فان غوغ. فهذا الذي يعتبر اليوم واحداً من أكبر الفنانين الذين عرفهم تاريخ البشرية، كان يرسم كثيراً وربما كل يوم. ولا سيما خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة من حياته، حين بدا مستعجلاً كالنهم يريد ابتلاع الحياة كلها، بما فيها من بشر وطبيعة وعناصر، وتقلبات مناخ ليضعها جميعاً، في قلب لوحاته. ترى كم لوحة رسم فان غوغ بين 1888 و1890، أي بين انصرافه نهائياً للعيش في الريف الفرنسي وبين وفاته وهو بالكاد بلغ السابعة والثلاثين من عمره؟ إن الرصيد الإجمالي، الذي تمت دراسته وإحصاؤه لفان غوغ يتحدث عن نحو 870 لوحة، اكثر من نصفها رسم خلال السنوات الثلاث أو الأربع الأخيرة... بمعنى أن الفنان كان ينتج لوحة كل ثلاثة أو أربعة أيام. وهذا في حد ذاته رقم قياسي من المستحيل على احد أن يحطمه. وهنا إذا انتقلنا من الكم إلى النوعية نتساءل: وكم عدد الأعمال الرائعة والباقية من هذه اللوحات؟ سيكون الجواب بسرعة: أكثر من ثلاثة أرباع تلك اللوحات، أعمال كبيرة... ولا سيما منها تلك اللوحات الذاتية التي تعد بالعشرات... والتي كان فان غوغ يصوّر فيها وجهه، أو الجزء الأعلى من جسده، شارحاً من خلال ملامحه، أحواله وآلامه وأحزانه. ويمكننا أن نقول في هذا الإطار انه نادراً ما بدا فان غوغ في واحدة من هذه اللوحات سعيداً، أو حتى راضياً متصالحاً مع الكون. في شكل إجمالي تعتبر تلك اللوحات «قصيدة حزن دائمة» بخاصة أن الفنان لم يرسم في أي منها سماته الخارجية، بل رسم فيها جميعاً جوّانيته. وهل كان يمكن لجوانية فتى قلق من طينة فان غوغ أن تكون فرصة لتلقي الحياة بهدوء ورضى؟ على الإطلاق... ومع هذا ثمة في الأمر مفارقة مدهشة: إذا كانت ملامح فان غوغ في لوحاته الذاتية تنطق بكل ذلك الحزن، فإن ألوان وأجواء لوحاته - لا سيما منها تلك التي رسمت في الجنوب الفرنسي وفي أوفير - تبدو مفعمة بالجمال والحبور، بما فيها تلك اللوحات الليلية. فهل كان الفنان يريد أن يقول حزنه لأن العالم في سعادة وتجلّ، أما هو ففي بأس ويأس مقيتين؟ سؤال تصعب الإجابة عنه. ومع هذا يمكن لمن يبحث جيداً أن يجد بضعة أعمال لفان غوغ، تتناقض مزاجياً على الأقل، مع التعبير الذاتي السائد في الغالبية العظمى من لوحاته. ومن هذه الأعمال لوحة تعرف باسم «الفنان في طريقه إلى تاراسكون» وهي لوحة صغيرة الحجم، لا يزيد عرضها على 40 سم وارتفاعها على 50 سم. ولكن المشكلة مع هذه اللوحة أنها ضائعة تماماً. ليس لها وجود معروف إلا من خلال صورها الملتقطة قبل اختفائها، أي قبل الحرب العالمية الثانية. إذ إن هذه اللوحة التي كانت حتى ذلك الحين معلقة في متحف «القيصر فردريتش» في مدينة ماغدبورغ الألمانية، ضاعت منذ ذلك الحين ويعتقد الآن أنها دمرت خلال الحرب. وهذا مؤسف... لأن هذه اللوحة عمل نادر في تاريخ فن فان غوغ... هي عمل يكاد يخرج عن السياق المعتاد لعمل الفنان، حتى وإن كان رسمها في العام 1888 نفسه، الذي حقق خلاله العدد الأكبر من «البورتريهات» الذاتية الكئيبة. ولكن، ألم نقل أن في وسعنا أن نتتبع مزاج فان غوغ، يوماً بيوم من خلال تتبع مسار لوحاته ومزاجيتها؟ هنا في هذه اللوحة يبدو مزاج الفنان رائقاً تماماً. ومن هنا، مثلاً، ما نلاحظه في المقام الأول من أن هذه اللوحة تبدو شديدة التعقيد فنياً - وهذا واحد من سماتها المهمة مقارنة بما كانت تنطبع به تلك المرحلة من حياة الفنان - وتركيبتها المعقدة هذه تتجلى في انقسامها من حيث الأسلوب الفني إلى ثلاثة مستويات. فهناك، أولاً، خلفية اللوحة وهي ذات مظهر ياباني تماماً، يبدو مقتبساً تماماً من الاسطمبات اليابانية التي كان فان غوغ شديد الإعجاب بها. بل انه حاول تقليدها كثيراً في بعض لوحاته التي تلا رسمه لها، اكتشافه الفن الياباني في اكثر من عرض باريسي. وفي المقابل يبدو مقدم اللوحة، لوناً وتشكيلياً، منتمياً تماماً إلى عالم الانطباعيين، يشاركه في هذا سطوع الشمس ملونّة المكان - وهو بعد انطباعي واضح تماماً - أما الشخص المرسوم في اللوحة، فهو تشكيلياً ينتمي تماماً إلى العوالم التي كانت مهيمنة على فن فان غوغ في ذلك الحين. ولنضف هنا، طبعاً، إن الشخص المرسوم هو - من دون لبس أو غموض - فان غوغ نفسه. لكن فان غوغ هنا مختلف كلياً عن ذاك الذي عهدناه في البورتريهات العائدة إلى المرحلة نفسها: انه هنا شخص مفعم بالحركة وربما بالأمل أيضاً. انه هنا سعيد جداً كما يبدو، متجه إلى حيث يزمع أن يرسم لوحة طبيعية من لوحاته، في يوم صيفي أجبره قيظه على وضع قبعة القش الشهيرة على رأسه لئلا تحرقه أشعة الشمس. والفنان هنا يحمل عدّته بكل استعداد ورضى، بل إن ثمة في ملامح وجهه الذي يبدو على رغم الظل واقعياً تماماً، ومترقباً تماماً، تطلعاً إلى الأمام... ولم يكن هذا غريباً عن مزاج فان غوغ خلال تلك المرحلة، إذ يقول لنا مؤرخو حياته، انه كان في ذلك الحين بالتحديد، ينتظر زيارة من صديقه وزميله الفنان غوغان، الذي كان اعتاد أن يجلس إليه ساعات وساعات يتحدثان خلالها عن فنيهما وحياتهما والنساء اللواتي تعرفا إليهن. كانت الجلسة مع غوغان تعتبر بالنسبة إلى فان غوغ عالم حياة قائمة بأسرها. ولا شك في أن هذا التوقع في حد ذاته كان هو ما أضفى على الفنان كل تلك الدينامية في لوحة عرف كيف يموضع نفسه وسطها تماماً، جاعلاً من ظله على الأرض صورة واضحة للدينامية المعتملة في داخله. والحقيقة أن ثمة هنا سؤالاً يطرح نفسه بنفسه: لماذا اختار فان غوغ، حين أراد أن يصوّر لحظة أمل من لحظات حياته، مشهداً عاماً، بينما كان يختار البورتريه للتعبير عن اكتئابه ولحظاته التعيسة (التي كانت كثيرة وطاغية على أية حال)؟ سؤال من الصعب، طبعاً، على احد أن يجيب عنه. لكن هذه اللوحة، تظل، على رغم اختفائها الغامض، إشارة إلى أن الفنان عرف كيف يعبّر في فنه، ليس عن نفسه فقط، وليس عن أحواله الخاصة، بل كذلك عن تلك العلاقة التي كانت تربطه بالطبيعة وتشده إليها. إذ علينا ألا ننسى هنا أننا «أيضاً» أمام منظر طبيعي له كل استقلاليته عن الفنان، وله جماله وبهاؤه... بل إن الفنان يجعل من نفسه هنا، لفرط سعادته - الموقتة على أية حال - جزءاً من هذه الطبيعة... بل جزؤها الأجمل. طبعاً نعرف أن فنسان فان غوغ سيرحل عن عالمنا بعد اقل من ثلاث سنوات من رسمه هذه اللوحة، كما نعرف انه في مقابل سعادة تتبدى في هذا العمل، رسم تعاسته في عشرات اللوحات الأخرى. ففي نهاية الأمر كان فنسان فان غوغ (1853-1890) فنان الحزن والطبيعة. فنان اللون الناجم عن كآبة الروح... كما كان فنان الفن... أي الفنان الذي جعل من الفن نفسه احد المواضيع الأثيرة للوحاته. وما اللوحة التي نحن في صددها هنا، سوى برهان حي على هذه العلاقة بين الفنان والفن والطبيعة. العلاقة أو التوحّد... لا فرق. [email protected]