كان مثيراً ذلك المقطع المصور في بلدة «قزلتبة» الكردية في جنوب شرقي تركيا، حيث كان مئات الشبان الأكراد من تلك البلدة، يهجمون على مقاهٍ ومطاعم وسيارات «ذويهم» من اللاجئين الأكراد السوريين؛ مطالبين إياهم بالرحيل عن بلدتهم. ضمن المشهد نفسه، كان ثمة العشرات من عناصر الجندرمة والشرطة التركية، يقومون بالفصل بين الطرفين! كانت هذه البلدة نفسها قد أحدثت رقماً قياسياً في تاريخ تركيا المعاصر، حينما صوت 80 في المئة من سكانها في الانتخابات البلدية لمصلحة مرشح حزب السلام والديموقراطية «القومي الكردي» قبيل أسابيع قليلة! وهي نسبة نادرة في الانتخابات التركية المحلية! قبل تصوير المقطع بأيام قليلة، كان مئات الآلاف من العرب العراقيين قد نزحوا شمالاً تجاه إقليم كردستان العراق، هرباً من هول المعارك التي جرت بين المتخاصمين «العرب» في سهوب الموصل والأنبار. فضلوا اللجوء للإقليم والبيئة المجتمعية الكردية على أية جغرافيا عراقية «عربية» أخرى، يمكن أن تضمهم. كانت الصور التي نُشرت في تلك الإثناء، عن الخدمات المقدمة لهؤلاء النازحين من قبل الحكومة المحلية والمجتمعين المدني والأهلي الكردي، إشارة فاصمة لتجاوز كل الحساسيات الإيديولوجية والسياسية القومية. فلم تقدم الحكومة المركزية «العربية» جزءاً مما قدمته الحكومة المحلية «الكردية». ولم يلق هؤلاء المهجرون «العرب» العراقيون، أية معاملة تقل عما قُدم للمهجرين «الأكراد» السوريين في الإقليم. لكن ذروة الفصام بين أحوال اللاجئين وادعاءات الديماغوجيا القومية، نبتت في العلاقة الشائكة بين «مجتمع» المهجرين السوريين في لبنان والمجتمع اللبناني نفسه، فعلى رغم «اللاشيء» الذي تقدمه السلطات اللبنانية لهؤلاء، سوى حق الإقامة خارج بؤر العنف المحض الذي يطاولهم في بلادهم، ومع كل المنافع الاقتصادية الجمة التي يقدمها المهجرون السوريون، فإن حملات التحريض و «الكراهية» التي طاولتهم من تيارات سياسية وأحياز مجتمعية لبنانية، كانت صادرة بمطلقها من أكثر التشكيلات الأيديولوجية المدّعية للنزعات القومية، حتى إن الكثير من هؤلاء كانوا يحسدون القلائل من السوريين الذين نزحوا تجاه الأراضي السورية المحتلة من إسرائيل. تبدو تلك المشاهد المتفرقة، كصور حياتية حديثة لما جرى أثناء التنقلات التقليدية للمهجرين- اللاجئين في منطقتنا، فلسطينيين وعراقيين وسوريين، سريان وأرمن وأكراد، حين كانت الممارسات الفعلية بحقهم، مناقضة تماماً ودوماً لأية ادعاءات للنزعات القومية المختلفة في منطقتنا. كانت المجتمعات المحلية في هذه البلدان، تتعامل مع المهجرين بحسب مصالحها الاقتصادية والاجتماعية الأضيق، وليس بحسب أية أيديولوجية سياسية أو ثقافية فوقية- قومية. فالغالبية المطلقة لمجتمعاتنا اعتبرت هؤلاء المهجرين مصدراً للقلاقل الاجتماعية ولاستحصال الفرص الاقتصادية الرخيصة على حساب هذه المجتمعات. الخطابات «الوطنجية» التي كانت تذاع على منابر الدعاية والبيانات الحزبية، لم تعن بأي حال أن مجتمعات بلداننا استبطنت تلك الديماغوجيات الفوقية، بل بقيت على الدوام أقرب إلى مصالحها الحياتية «الأضيق». كانت مجتمعاتنا تميل لتلك الممارسات، لأنها رخوة وهشة تجاه النزعات العصبوية، مهما كانت ضيقة الحيز والممارسة، مجتمعات خالية من ممارسات ثقافية ومدنية وتنظيمية عميقة، تحيا من دون موانع وثيقة مضادة للكراهيات الجمعية، للهوجات وممارسات «الفرهود». مجتمعات تحت سيطرة اللحظة والغضب السريع. حدث ذلك بالضبط- تقليدياً وراهناً- لأن «دول» هذه المجتمعات لم تسلك سلوك الدول في قضايا هؤلاء المهجرين، بل تصرفت كطرف سياسي متصارع، يسعى لاستغلال قضايا المهجرين قدر المستطاع. تركت المهجرين مشكلة معقدة، على مجتمعاتها أن تتعامل معها وتتحمل «وزرها»، حين لم توفر لهم الحد الأدنى من الحلول الاقتصادية والبيروقراطية والعقارية والقانونية. المهجرون العراقيون كانوا أهم مدخل للاقتصاد السوري- اقتصاد رجالات النظام- طوال عقد كامل، وكانوا أهم ورقة ضغط من النظام السوري على نظيره العراقي. النظام السوري لم يبال مطلقاً بالطفرة العقارية الضخمة التي أحدثها المهجرون العراقيون في البيئة الاقتصادية السورية، وما قد يحدث ذلك من موجات «كراهية» قد تطاولهم من المجتمع السوري. على المنوال نفسه تصرفت السلطات اللبنانية، فمخاوفها الديموغرافية التقليدية سمحت لها بتجاوز العتبة الأدنى لحقوق المهجرين السوريين، وبذلك تركتهم لقمة سائغة لأية نزعة كراهية قد تنبت في المجتمع اللبناني. جرى ذلك أيضاً في الأردن ومصر والعراقوتركيا، وكل بحسب درجة تماهيه مع سلوكيات وواجبات الدولة، فكلما كانت الدولة أكثر التصاقاً وممارسة لواجباتها التقليدية، كانت المجتمعات المحلية أكثر استرخاء في التعامل مع المهجرين. كانت الدولة هي المقياس الوحيد، وكانت الشعارات القومية مناقضة تماماً لميولها وادعاءاتها، لأن الدول فعل وممارسة، أما النزعات القومية، فمجرد أوهام يراد تصديرها. ملايين المهجرين- اللاجئين الذين يجوبون سهوب ومدائن منطقتنا، مملوئين برهاب الخشية من ذويهم الأقربين، لا يطيحون فقط بأي ادعاء ووهم قومي أو أثني كان متخيلاً عن مجتمعاتنا، بل أيضاً بأي حضور مفترض للدولة وبأي من وظائفها. هؤلاء الملايين المهجرين-اللاجئين وما يمارس بحقهم، يؤكد بعمق أننا شعوب تحيا العراء المحض. * كاتب سوري