في مثل هذا الشهر من العام 2004، نقل الحاكم المدني الاميركي بول بريمر الذي تولى السلطة بعد اطاحة نظام صدام حسين، المسؤوليات الى حكومة عراقية انتقالية ترأسها احد زعماء المعارضة للنظام الديكتاتوري، اياد علاوي. لكن ما انفك نجاح أميركا اللافت في انهاء صدام ومن ثم اخفاقها في ترتيب البيت العراقي، مولداً لأسئلة عدة في كل مرة يتم فيها البحث عن ضوء في آخر نفق العراق الطويل. عراقياً بدا حدث نقل السلطة باعثاً على التفاؤل، وبالذات عند القوى السياسية المستفيدة من سقوط النظام السابق، غير ان اجواء التفاؤل تلك، وفق جميع الاطراف العراقيين، حتى المرتبطين مباشرة بمشروع ادارة الرئيس جورج بوش لاطاحة صدام بالقوة، لم تجد استثماراً اميركياً منهجياً، بل كانت هناك فوضى سياسية وادارية وعسكرية من واشنطن وممثليها في العراق، الذين ظلوا فعلياً يتدخلون في صلب القرارات التي تتخذها بغداد حتى بعد انتخاب حكومتها ديموقراطياً للمرة الاولى في العام 2005. منتقدو خطط الإدارة الاميركية يرون إن قصة فشل إعادة إعمار العراق تماثل في اتساعها واكتساحها ومأساتها، الحرب نفسها. ومن المثير للدهشة أنه كلما صبت الإدارة المزيد من الأموال، وقعت تصرفات طائشة متهورة الواحدة تلو الأخرى. ولم تكن عملية إعادة البناء نوعاً من الإيثار وإنكار الذات من جانب الولاياتالمتحدة، بل إن الهدف الأساسي والإستراتيجي والمباشر هو حماية أرواح الأميركيين، والفكرة هي تهدئة العراق من طريق جعل الحياة أفضل حالاً بالنسبة الى شعبه الذي طالت معاناته، وإتاحة فرص عمل للشباب وللعاطلين من العمل. كذلك، فإن تقديم خدمات أفضل سوف يخفف من الاعتقاد أن أميركا غزت العراق طمعاً في ثروته النفطية. ومن المحتمل أن تصبح الإصلاحات سداً أمام العنف. ومع وجود عراق حر وديموقراطي، ذي أسواق مفتوحة، وإجمالي ناتج قومي مرتفع، يصبح العراق واحة ديموقراطية في صحراء الشرق الأوسط، وتضطر الدول الأخرى في المنطقة إلى إجراء الإصلاحات، وسوف تخف عوامل القهر السياسي والاقتصادي والاجتماعي التي ولدت غضباً عارماً بين جماهير المسلمين. أما الشباب الذين يشعرون بالغضب من دعم الولاياتالمتحدة الأنظمة غير الديموقراطية، فسوف يرون في أميركا دولة اقل خطراً، بل وقد يعتبرونها حليفاً في نضالهم من أجل الحكم الديموقراطي. بعد سنوات من» الخطة الوردية لإقامة عراق ديموقراطي متطور وبناء»، تبدو الوقائع العراقية مخالفة -او تكاد- للحسابات الاميركية، على رغم محاولات ناجحة، منها تدريب مئات الآلاف من القوات العراقية، وتطعيم عشرات الآلاف من الأطفال العراقيين، وترميم آلاف المدارس وتزويدها بالكتب والمواد المدرسية، وترميم أعداد كبيرة من المباني الحكومية، ومراكز الشرطة، ونقاط الحدود، وتخفيف مستوى العنف والقتل الطائفي ضمن حرب اهلية اعتبرت «الاخطاء الاميركية» مسؤولة عن اندلاعها، فضلاً عن ميول القادة العراقيين، من الشيعة والكرد، الى اقصاء السنة العرب. وشهراً وراء شهر بعد مرحلة الآمال التي أشاعتها الانتخابات الديموقراطية في البلاد، أخذ العراقيون يعبرون مراراً وتكراراً عن دهشتهم من عدم حدوث أي تقدم، ويتساءلون: كيف تعجز دولة أرسلت الإنسان إلى القمر عن إقامة نظام صرف صحي في الأحياء الفقيرة في بغداد، او عن اقامة محطة توليد للكهرباء! الحيرة العراقية المتواصلة تنتهي بسؤال: كيف أمكن أقوى دولة في العالم اقتصادياً وعسكرياً، أن تفشل في مهمة حيوية مثل إعادة إعمار العراق. الكاتب توماس كريستيان ميلر وغيره من عشرات الكتاب والمعلقين الاميركيين، يُجمعون على ان «من المؤكد أننا مدينون للعراقيين بتوفير الفرصة لإشاعة الاستقرار في بلادهم. وافتقرت الزعامة الأميركية إلى الذكاء والنزاهة حتى تنجز الالتزام الأخلاقي الأساسي بتحسين حياة شعب مزقته قوة النيران الأميركية وقسوة نظام شمولي». استعادة ذكرى نقل السيادة من الاميركيين الى العراقيين، تحيل الى ما كان يصاغ في الغرف القريبة من مركز القرار في البيت الابيض العام 2003، غرف واجتماعات كان ينتظم فيها وولفوفيتز نائب وزير الدفاع، ونائبه دوغلاس فايث، وريتشارد أرميتاج نائب وزير الخارجية، ومارك غروسمان وكيل وزارة الخارجية، وجون ماك لوغلين نائب مدير وكالة الاستخبارات الأميركية، وفرانك ميلر وزلماي خليل زاد من مجلس الأمن القومي. وتناولت الاجتماعات تساؤلات تتصل بمستقبل دولة، ومن بينها: من الذي سيحكم العراق بعد سقوط صدام حسين؟ كيف ستعمل الشرطة والنظام القانوني؟ كيف سيحصل الشعب العراقي على الطعام والماء والكهرباء؟ كيف يتم تقسيم عائدات النفط العراقي؟ وعلى رغم جدية تلك التساؤلات وجوهريتها، فأن مقربين من اجواء الاجتماعات يؤكدون انها لم تشهد وضع أي خطط حقيقية مفصلة تجيب عن الأسئلة المطروحة. إرث بوش في مؤتمره الصحافي الأخير قبل تركه البيت الابيض، حاول الرئيس السابق جورج بوش شرح إنجازاته وتفسير اسباب الاخطاء التي وقع فيها، لكن قدرته على التواصل لم تتناسب وافكاره، مثلما هي دائماً المسافة بين رؤيته حول العراق وطريقة تعاطي ادارته مع القضايا العراقية على الارض. اسم الرئيس الاميركي السابق اقترن بالاخطاء التي وقعت في حرب العراق، كما ان الاسباب الداعية لازاحة صدام حسين عن السلطة لم تكن محل شك عند الرئيس بوش، فنظام صدام الشرير تسبب في ارهاب العراقيين لعقود، ورغبته في امتلاك اسلحة الدمار الشامل واستخدامها، صوّرها الاميركيون وادارة بوش على انها أمر ثابت. لكن صدام حسين في عام 2003 لم تكن لديه اسلحة دمار شامل، ولم تكن له علاقة ب «القاعدة» واعوانها. وبسبب الاخفاق في التخطيط لاختيار بديل من صدام، فتح وزير الدفاع السيء الصيت دونالد رامسفيلد، ابوابَ العراق للجماعات الارهابية الاسلامية التي تمقت فكرة قيام ديموقراطية، وللطائفيين ايضاً. المشكلة الأساس في العراق التي لم تتعاط معها ادارة بوش، تكمن في إعادة بناء الدولة العراقيّة بعيداً من سيطرة الاحزاب وقادتها «الفاسدين والطائفيين» المتسلحين بحجج الرئيس الاميركي ذاتها، وهي انهم منتخَبون، وتكمن أيضاً في «حملتهم الديموقراطية» التي يؤمن بها بوش وعمل بالدم والمال العراقي والاميركي على تحقيقها، كما انه لم ينظر الى بقاء العراق موحداً على قدر من الأهمية، فضلاً عن عدم التعاطي الجدي مع ما يواجهه من تحديات إقليميّة ابرزها شهوة ايران الى التوسع على حسابه. اليوم لا هوية وطنية في العراق، وما تبقّى من كونها فكرة سائدة هو خطاب سياسي استهلاكي يستخدمه الطائفيون والعرقيون، فالكرد لا يخفون سعيهم الى الانفصال، وهذا بدا مطلباً شعبياً لدى العرب (الشيعة والسنة)، اذ يسود رأي واسع: «امنحوهم حق الانفصال كي ننتهي من مشاكلهم»، فيما يسود رأي واسع بين السنة يدفع الى تشكيل أقاليم فيدرالية بعيداً من سيطرة المركز الذي يهيمن عليه الشيعة. وبعد سنوات من الاقتتال الطائفي الرهيب تتشكل في الوجدان الشعبي العراقي صورتان باتتا نمطيتين: «الشيعة كمعادل للحكم الفاسد الذي نهب خيرات البلاد والسنة كمعادل للإرهاب والعنف». وفي حين تبدو الديموقراطية المختزلة في العراق ضمن التصويت عبر صناديق الاقتراع وحرية التعبير النسبية، هي الانجاز الوحيد للإرث الاميركي، الا انها تتعرض الى خطر جدي، فقد تم القفز على نتائج انتخابات العام 2010 ضمن ترتيب أميركي إيراني أبقى الشيعة، ممثَّلين برئيس الوزراء نوري المالكي، في سدة السلطة، ليتصرف بعدها الاخير ضمن خطوات منهجية لتصفية الخصوم عبر وسائل «ديموقراطية ودستورية»، فيما تعرضت حرية التعبير والتداول الحر للمعلومات الى انتكاسات جدية، ليس اقلها ان العراق لايزال هو اكثر منطقة في العالم قتل فيها الصحافيون والمثقفون والأكاديميون، ولايزالون يتعرضون الى اخطار القتل والتهديد والتصفية. العراق بوصفه دولة مدنية، يتعرض الى انتكاسات جدية، فرجال الدين وسلطتهم الى نفوذ متصاعد، وشيوخ العشائر لهم سلطة يصاعدها السياسيون، الذين لم يترددوا في تقديم الهبات والمكارم لمن باتوا يشكلون في مناطق واسعة من العراق العربي اكبر من سلطة القانون، ضماناً لأصوات آلاف، هم من يتبعون تلك العشائر واهواء شيوخها. ويسجل العراق درجات متدنية في مجالات كانت الى حين تؤشر اليه كبلاد متقدمة في المنطقة، وتحديداً في مجالات التربية والتعليم العالي والصحة والعمران المعاصر. ما شهدته السنوات التالية لنقل السيادة الى العراقيين، يسجل غياباً شبه تام للصناعة الوطنية، وتعثراً للزراعة، وتراجعاً في مجالات الثقافة المدنية لمصلحة صعود القيم المتزمتة دينياً واجتماعياً، حيث تخلو العاصمة من اي حياة ثقافية، من امسيات سينمائية ومسرحية وموسيقية، واستعيض عنها بما بات يعرف «الأصبوحة الثقافية». وتبدو «عبادة الشخصية» التي رسخها النظام الديكتاتوري، وقد صارت جزءاً من الهوية الاجتماعية العراقية، فعوضاً عن صور «القائد صدام» ثمة صور للقادة الطائفيين، من رجال الدين والسياسية، صارت ثابتة الحضور، ليس في الشوارع والساحات العامة وحسب، بل في المدارس والمؤسسات الحكومية، فيما تعطل هذه لأيام طويلة في السنة جراء «الزيارات الدينية المليونية»، الى حد ان الموظفين العراقيين، ووفق تقرير دولي نشرته «الحياة» الاسبوع الماضي، هم «الأكثر كسلاً في العالم». «الإنجاز» الأبرز للعراقيين منذ تسلموا السلطة في العراق من الاميركيين في «نقل السيادة» العام 2004 الى اليوم، هو انهم عملوا بقوة على تهديم «دولة المواطن» المدنية من اجل بناء «دولة المكونات الطائفية والعرقية» والحط من قيم الكفاءة المهنية والعلمية والفكرية لمصلحة قيم الولاء الحزبي والطائفي والعرقي. وانقلاب قيمي كهذا ليس بعيداً من بقاء العراق مركزاً لصراع متواصل يأخذ اشكالاً امنية، لجهة العنف المتصاعد بعد رحيل القوات الاميركية، وثقافية، لجهة شيوع الفساد والتزمت الديني والاجتماعي (العشائري) وانحسار ملامح الدولة المدنية، ضمن بناء تعصف به الفوضى.