من المشاهد الجميلة واليومية رؤية شابة في مقطورة قطار منكبّة على قراءة كتاب صغير ساحر يستغرق انتباهها بينما القطار يجتاز سريعاً واحداً من السهول أو يهم بدخول نفق جبلي. وذريعتي إلى ملاحظتي هذه هي بلوغ مجموعة كتاب الجيب «فوليو»، وتتولى دار غاليمار نشرها، الأربعين من عمرها. وتبيع دور النشر الفرنسية مجتمعة في السنة، 100 مليون كتاب جيب. ويذكّر إيفون جيرار، وهو يتولى منذ 18 سنة إصدار مجموعة «فوليو»، بأن كتاب الجيب معروف منذ القرن التاسع عشر، وكان الباعة يوزعون كتباً صغيرة زرقاء في الأسواق، لكن نشأة كتاب الجيب الموثقة والرسمية تعود إلى أعوام 1930 - 1935 الأميركية. فيومها صدرت سلسلة «بوكيت بوك» بهذا الاسم. وفي أثناء الحرب الثانية طبعت ملايين النسخ وأرسلت إلى الجنود الأميركيين الذين كانوا يقاتلون في الخارج. أما في فرنسا، فيعود السبق إلى هنري فيليباتشي، أواسط الخمسينات حين انتبه الناشر الصحافي الكبير إلى أن طباعة أعمال الكتّاب الكبار الذين سبق أن نشرت معظمها دار غاليمار، أكبر دور النشر الفرنسية، في كتب صغيرة الحجم على ورق عادي وبأعداد كبيرة قد تكون عملاً مربحاً. ولم تتفق دار هاشيت وغاليمار، في 1972، على اقتسام حقوق النشر الجديد، ولا على التوزيع. فقرر كلود غاليمار الانفراد بسلسلته، وترك «كتاب الجيب»، على ما سميت السلسلة المشتركة مع هاشيت. وقلل من المغامرة امتلاك الدار العريقة كنزاً غنياً. ويروي جيرار: «لا يعلم أحد من وقع على اسم المجموعة، فوليو، الذي يبدو اليوم بدهياً. أما من ألبس الكتب لباسها البسيط والأنيق فهو المدير الفني، ماسان الذي اقترح على كلود غاليمار صيغة مدهشة لم يتردد صاحب الدار في الأخذ بها». وإلى يومها، في الولاياتالمتحدة وفي فرنسا، كان كتاب الجيب يتوسل بأغلفة ملونة شديدة التزويق تستفز النظر وتستوقفه. فعمد ماسان إلى انتقاء لون واحد أنيق هو الأبيض، وجسم واحد، معروف بباسكيرفيل، كتبت به عناوين الكتب كلها، وطول 18 سنتم وعرض 10 سنتم مشترك. كان الكتاب الأول «الوضع الإنساني» لأندريه مالرو. وبلغ عدد النسخ من أحسن 20 كتاباً مبيعاً في السلسلة، في الأعوام الستة الأولى وحدها، 15 مليون نسخة. وتبلغ الأرقام اليوم مستويات مذهلة: بيعت 365 مليون نسخة، وبلغ عدد العناوين 8 آلاف في السلاسل الفرعية كلها: السلسلة الكلاسيكية والبوليسية، والخيالية العلمية، والإنسانيات، إلخ... وتعد السلاسل 2500 مؤلف ثلثاها مصدره دار غاليمار والثلث الباقي من 15 ناشراً. وتستقرأ من الأرقام نزعات وميول: فيتقدم جميع الكتّاب ألبير كامو الذي بيعت من كتبه 16.5 مليون نسخة، ويتقدم كتاباه «الغريب» و «الطاعون» أعماله الأخرى. وإلى كامو ثمة سارتر والرسامان سيمبي وغوسيني وستيندال وبروست وجيد وجورج أورويل. ومن الأعمال الجديدة بيعت من كتاب فوكينوس «رهافة الطبع» 915 ألف نسخة. عوامل الرواج هي السعر المعتدل (6.5 يورو للنسخة العادية) ويُسر الحمل ونوع الورق وسياسة النشر الكامل، ومصادر القراء. فالمدارس الثانوية والجامعات تدرس عدداً كبيراً من هذه الأعمال، وتدعو إلى قراءتها واقتنائها. وهذا الشطر من القراء يبلغ ثلث عددهم. والقراء ممن سنهم 15 - 25 سنة هم ربع قراء السلسلة. ويبلغ متوسط سن شطر ثانٍ 25 - 45 سنة، وهؤلاء يسميهم جيرار «الهواة المثقفون». وعلى خلاف ظن من تولوا السلسلة في مراحلها الأولى، ليس كتاب الجيب سلعة يرميها صاحبها بعد «استهلاكها». فكبار الكتّاب، بروست وموباسان وبلزاك وهمنغواي وغيرهم، يحفظ أصحاب المكتبات البيتية كتبهم على رفوفهم. ولم تنفك دار غاليمار تشهد زيادة سنوية في مبيعاتها من كتاب الجيب تبلغ 2.5 إلى 4 في المئة. وعلى هذا، فالقارئة الشابة في المقطورة لن تطوي كتابها الصغير قريباً. * روائي وصحافي، عن «لوفيغارو» الفرنسية، 4/6/2012، اعداد منال نحاس