يتناول الباحث عصام سخنيني في كتابه «الإسرائيليات: مكونات أسطورية في المعرفة التاريخية العربية»، قضية الإسرائيليات واندغامها في النسيج التاريخي الإسلامي. بداية، يشير مصطلح «الإسرائيليات» إلى مجموعة من الأخبار والمرويات التي تسربت من مؤلفات «العهد القديم» إلى أعمال المؤرخين والمفسرين المسلمين. تدور الإسرائيليات في جملتها حول محاور مثل، قصة الخليقة الأولى، وأخبار الأنبياء، وأخبار دول وممالك الحقب القديمة. وإلى ما قبل القرن ال19، كان ينظر إلى الكتاب المقدس على أنه المرجع الوحيد والمعتمد في إضاءة زوايا التاريخ المعتمة. غير أن نضوج مناهج البحث العلمي، وبروز أدوات نقدية حديثة، واكتشاف اللقى الأثرية المدفونة في باطن الأرض، أدت كلها إلى تجريد الكتاب المقدس من هالته القدسية من خلال الكشف عن دور الكهنة في تحرير نصوص الأسفار، وهي الحقيقة التي تنسجم مع ما ورد في القرآن الكريم من إشارات إلهية إلى تحريف الكتاب المقدس. وعلى رغم ما قيل ويقال عن التحريف الذي طاول المتن التوراتي وبقية الأسفار اليهودية، إلا أن أوائل المؤرخين والمفسرين المسلمين لم يتحرجوا من المتح من معين الروايات اليهودية ذات الصبغة الأسطورية اللاتاريخية في ردم فجوات التاريخ المجهول. لقد تعامل جلّ المؤرخين المسلمين مع الحكايات التوراتية بنزعتها العجائبية كما لو كانت حقائق لا تقبل التفكير والتشكيك! وفي أحيان أخرى، اضطر المؤرخون المسلمون إلى تلوين الحكاية التوراتية بألوان إسلامية لتجاوز بعض الإشكالات الأخلاقية والمطبات الدينية التي لم تعتور أسفار العهد القديم. وإذا كان معظم الرواة والمؤخين المسلمين أذعنوا لسلطة المرويات التوراتية، فإن هناك بعض الاستثناءات التي وقفت متشككة من هذا الزخم الغرائبي الذي تموج به الحكايات الكتابية. فابن الأثير، مثلاً، تحدث متهكماً من إحدى تلك الروايات التي كانت تصف عظمة جيش الملكة بلقيس. يقول ابن الأثير: «... قالوا: كان لها اثنى عشر ألف قيل (ملك)، تحت يد كل قيل مئة ألف مقاتل، مع كل مقاتل 70 ألف جيش، في كل جيش سبعون ألف مبارز ليس فيهم إلا أبناء 25 سنة. وما أظن الساعة راوي هذا الكذب الفاحش عرف الحساب حتى يعلم مقدار جهله، ولو عرف مبلغ هذا العدد لأقصر إقدامه على هذا القول السخيف. فإن أهل الأرض لا يبلغون جميعهم شبابهم وشيوخهم وصبيانهم ونساؤهم هذا العدد، فكيف يكون أبناء 25 سنة». أما ابن حزم الأندلسي، فكان أكثر المؤرخين المسلمين رفضاً للكتاب، إذ يقول: «إن توراتهم مبدلة، وإنها تاريخ مؤلف... وإنها غير منزلة من عند الله تعالى». الذي يدعو للحيرة هو انسياق المؤرخين، قديماً وحديثاً، وراء سراب الحكايات التوراتية، على رغم ما يختلجها من نزعة اصطفائية ونظرة فوقية تجعل من اليهود شعب الله المختار ومن بقية شعوب الأرض عبيداً وخدماً لهم. صبت التوراة لعنات السماء على كنعان، فجعلت منه تابعاً لإغواءات الشيطان، وما ذلك إلا لتوجد مبرراً أخلاقياً لاقتلاع الكنعانيين من جذورهم في فلسطين. المدهش أن الكتابات العربية تبنت الموقف التوراتي ذاته المعادي لكنعان وذريته، على رغم أنها، أي الكتابات العربية، لا تكف عن تسفيه وتفنيد أحلام وأطماع اليهود بفلسطين! الآن، وبعد أن أسهمت أدوات النقد النصي والتاريخي والأركيولوجي في تبديد الأوهام التوراتية واستجلاء محتواها الخرافي، إلا أن الكتابات المعاصرة العربية، إجمالاً، لم تتحرر من ربقة الأساطير التوراتية، على رغم فقدان أسفار العهد القديم لقيمتها العلمية والتاريخية، وهو الأمر الذي ينم عن سطوة الفكر الماضوي وعدم الانفتاح على آخر مستجدات الدراسات الأثرية. أليس من العجب أن يقرّ غالبية الباحثين الغربيين، والإسرائيليين بالذات، بتهافت وخطل المرويات التوراتية، فيما تبقى تلك الإسرائيليات نافذة - للأقدمين والمحدثين - لقراءة تاريخ أشبه بالحلم؟! [email protected]