«اختراع اليهود» كتاب جديد من تأليف شلومو ساند، وهو أستاذ تاريخ معاصر في جامعة تل أبيب، ينسف الأسس الإثنية والخرافات التوراتية التي توكأ عليها منظرو الصهيونية في تبرير قيام اسرائيل. الكتاب يجمع من مادة يستعملها أي بروفسور تاريخ كل يوم، وساند يقول إن لا مادة جديدة عنده فالمعلومات متوافرة، وبعضها يعود الى مؤرخين ومفكرين من القرن التاسع عشر، إلا أنه يشكو من أن المؤرخين الإسرائيليين تجاهلوا كتباً وعمل مؤرخين ونتائج مؤتمرات كلها تحدثت عن مملكة الخزر اليهودية في القوقاز، وهذه قامت بين القرنين الثامن والثالث عشر الميلاديين بعد أن اعتنقت قبائل محلية اليهودية فراراً من ضغط ممالك المسلمين والمسيحيين المحيطة بها. وهؤلاء اليهود الخزر هم الذين نزحوا الى شرق أوروبا ووسطها، ومنهم طلع الفكر الصهيوني لتبرير الاستيلاء على فلسطين. لعل أشهر من تحدث عن الموضوع كان آرثر كوستلر مؤلف «القبيلة الثالثة عشرة» عن اليهود الخزر، بدل قبائل اسرائيل التوراتية الاثنتي عشرة. وكوستلر بدأ صهيونياً، إلا أنه تحول عن الصهيونية احتجاجاً على الاستيطان في أراضي الآخرين، ثم أصبح شيوعياً وعاد فهاجم الشيوعية بسبب جرائم ستالين. وساند يسجل ان السفير الإسرائيلي في لندن اتهم كوستلر بأنه جزء من مؤامرة فلسطينية وتمويل فلسطيني. وأذكر من تلك الأيام في بدء إقامتي في لندن أنني طلبت الكتاب من مكتبة «فويلز» ووجدته في قسم الروايات بدل التاريخ. الرواية الخيالية فعلاً والتي لا تستند الى أي دليل تاريخي هي الخرافات التوراتية عن مملكة اليهود القديمة وأنبياء اسرائيل واليهودية والسامرة، هذه المملكة لم تقم يوماً، وأنبياء اليهود لم يوجدوا، وبما ان في القرآن الكريم اسرائيليات كثيرة بدءاً بسورة «البقرة» فقد سألت باحثين إسلاميين في لندن عن الموضوع، فقالوا إن أنبياء المسلمين الواردة أسماؤهم في القرآن الكريم هم غير أنبياء اليهود الذين حرفت قصصهم. إعلان استقلال اسرائيل سنة 1948 قال عن اليهود إنه «بعد طردهم من أرضهم حافظ الشعب على الإيمان طوال تشردهم (دياسبورا) ولم يتوقفوا عن الصلاة والأمل بالعودة»... هي خرافة أخرى، فاليهود لم يطردوا من أي أرض، والإشارة تحديداً الى مزاعم أن الرومان طردوا اليهود من فلسطين سنة 70 ميلادية وهدموا هيكل سليمان الثاني. التاريخ يقول إن اليهود اضطهدوا إلا أنهم لم يطردوا، وهذا ما يؤكده ساند من مصادر تاريخية ثابتة، وأزيد أن الهيكل لم يقم يوماً لأن سليمان التوراتي نفسه وقبله داود لم يوجدا لتقوم تلك المملكة الوارد ذكرها في سفري صموئيل الأول والثاني وسفري الملوك الأول والثاني. ومثل بسيط من التاريخ التوراتي لدخول أرض كنعان أكمله بما درست وقرأت، ففي الخرافة التوراتية يقطع الرب نهر الأردن ايام الفيضان ليعبر اليهود بقيادة يشوع نحو أريحا، وتسقط أسوار أريحا بإطلاق الأبواق وهتاف الشعب هتافاً عظيماً، أيضاً بحسب أوامر الرب. الحقيقة المنطقية أن الأسوار لا تسقط بالأبواق والهتاف، والحقيقة التاريخية أن أريحا القديمة كانت بلدة صغيرة ومن دون أسوار أصلاً. هناك بحر زاخر من التاريخ الحقيقي والدراسات الأكاديمية، وكثير منها كتبه يهود، ينفي خرافات التوراة. ولا بد أن شلومو ساند بدأ يجمع مادة كتابه منذ سنوات، إلا أن توقيت نشره بالعبرية على خلفية انتخابات الكنيست المقبلة وترجمته الى الانكليزية، وصدوره هذه السنة لا يمكن فصله عن وجود حكومة يمينية متطرفة في اسرائيل، تطالب باعتبار اسرائيل دولة يهودية، وتحاول إرغام الفلسطينيين من أهل 1948 على عدم الاحتفال بالنكبة، وإنما إحياء قيام اسرائيل على أنقاض بلدهم وترديد النشيد الوطني الإسرائيلي. ساند يقول إن اسرائيل لا تستطيع أن تصف نفسها بأنها ديموقراطية وهي في الوقت نفسه تعلن انها دولة الشعب اليهودي، بدل الناس جميعاً الذين تضمهم حدودها، ويكمل مستثنياً الأراضي المحتلة. الكتاب يبدأ بصور عن ناس هاجروا الى اسرائيل، فهناك يهودي من بولندا، شيوعي لا يؤمن بدين، وآخر من اسبانيا فوضوي ثوروي، ثم هناك فتاتان غير يهوديتين من فرنسا وسيبيريا تنتقلان الى ما أصبح اسرائيل طلباً لحياة أفضل. وبين هذا وذاك يورد ساند قصة «محمودين»، من أبناء فلسطين وقيام اسرائيل في وطنهما. محمود الثاني الذي لا يورد المؤلف اسمه كاملاً هو محمود درويش، الشاعر الفلسطيني المشهور الذي رحل عنا سنة 2008. والمؤلف معجب به يورد مطلع قصيدته المشهورة: سجل أنا عربي ورقم بطاقتي 50 ألف وأطفالي ثمانية وتاسعهم سيأتي بعد صيف فهل تغضب هذه القصيدة ترجمت الى العبرية ولغات كثيرة أخرى، والمؤلف يقول انها ألهبت المشاعر الوطنية لجيل من الفلسطينيين يحدوهم الأمل. وأكمل غداً. [email protected]