كلما جبر الوقت كسراً بقلوبنا، فَجَعَ القلوب كسر آخر، ومن قسوة الحياة في تقلباتها ألا تحترم الأعين كثيراً، فها هي الأعين التي لم تجف على رحيل «سلطان الخير» تعاود الهطول على موت «نايف الأمن»، لكنها الحياة لا تساوي شيئاً في حضرة الموت، ولا أوجع من أن يغادر رمز وطني في غمضة عين، ونحن الذين كانت ألسنتنا تقول «سيعود بيننا، سيمضي ولياً للعهد ووزيراً للداخلية وذا هيبة قل أن تشاهد مثلها». يرحل نايف بعد أن صنع في بلدنا جهازاً أمنياً منيعاً، حين كانت تتجاذب جغرافيا الوطن أيدٍ خبيثة وتحاول أن تدس فيه ما تمكنت من السموم، يرحل وهو الذي خدم السنة المطهرة، واحترم علماء الدين، وأنصت لهم مدركاً أنهم عصب حياة لطريق تحفه المخاطر من هنا وهناك، كان يقول لمن يفكر في زعزعة البلد «نحن هنا»، وأنا هنا «ركن» دين وركن وطن. الحزن يخيم على أرواح السعوديين لترجل فارس الأمن الأول، ورجل وطن سيظل في ذاكرة التاريخ، الحزن يمتد لأن الوجوه الطيبة الحنونة الشجاعة من ولاة أمرنا بات يأخذها الموت فجأة، ونحن الذين - لحبنا الكبير وثقتنا فيهم وعدم إدراكنا لحتمية الموت - لم نهيئ أنفسنا ومشاعرنا لأن نستعد في اللحظة المفاجئة لتقبل أنهم لن يعودوا بيننا، ولن تمر علينا نبرات أصواتهم، ونتسمر أمام حضورهم المنبري الآخاذ، ونستمع لمشوار صمودهم ضد محطات حياة متقلبة، وشوكة في حلق أذناب كانوا ولا يزالون يضمرون العداء ويفرحون حين يترجل أي مواطن عملاق عن مشوار الحياة، يغادر نايف بن عبدالعزيز ونحن لا نزال، على رغم الحب والإعجاب، نعد العدة لنجمع تجاربه، وقصصه، وثروته الأمنية الثرية التي تحتفظ بها سيرة ذاتية، لكن - ويا للأسى - لن نحفظها عن ظهر قلب، ونستوعبها، وندرك حجمها واتساع أفقها إلا بعد سطر رحيله المر عن وطن ودعه ذات نهار سبت حزين، وهو الذي أفنى عمره وصحته ووقته من أجله أمنه وثباته. مات رجل المواقف، والاستثناء في كل شيء، قاهر الإرهاب، صمام أمن الحج، والصامد بوجه كل الصراعات والتحديات أشهرها «هندسة التصدي للقاعدة»، مات إلا من قلوبنا وذاكرتنا المكتنزة به وبأخوته، وقد علمنا سلفه من الراحلين العظماء أن نتحمل أقسى الصدمات، وأن نقف بعد الممات وكأن من يرحل منهم حي بيننا، فيكفي النايف منهجه الواضح والشخصية المتفردة الآسرة التي ستظل حديث الأجيال، أمن الوطن كان من قبله وسيكون من بعده مسؤولية الجميع، وعلى رغم أن وطني حزين جداً، لكننا سنكون صفاً واحداً كله «نايف» حتى لا يطالنا «قزم»، ومن كان «نايفاً» لن يطوله «قزم»، وإن ماتت الشجرة يا وطن فإن ظلها لم يمت، جبر الرب قلوب أبناء الوطن، وجبر الرب قلب أبي متعب، ففجيعته أبلغ وأكبر بفقد «أخ» من بعد «أخ». [email protected] @alialqassmi