بالمقارنة مع خطابه الأول في المكان ذاته، بدا بشار الأسد في خطابه الأخير أمام مجلس شعبه الجديد، مكتئباً متشائماً حزيناً، فلم يبتسم، ناهيكم عن الضحك مقهقهاً كما فعل في خطابه الأول، في آذار (مارس) 2011، تسعاً وعشرين مرة، بعدما كانت قواته قتلت في درعا عدداً من المتظاهرين، واقتلعت أجهزته القمعية أظافر أطفال قُصَّر هناك. وبما أن المؤامرة الكونية التي طالما تحدث عنها والضاربة في أعماق التاريخ البشري، باتت مكشوفة ولا حاجة به لإثباتها، فقد فضّل الرجل تخصيص كلمته التاريخية للعدو الذي انتقل من الحدود الجنوبية للبلاد إلى داخلها من طريق إرهاب أعمى، أعلن الرئيس الجزئي أنه سيستمر في ارتكاب مجازر إضافية بعد الحولة وما سبقها، لأنه غير معني بالإصلاح أو العملية السياسية التي بلغت الكمال بعد تغيير الدستور وانتخاب مجلس للشعب... غير أنه لم يتوان عن إعلان تشاؤمه في شأن المستقبل. فالجيل الجديد من الفتية السوريين أُفسد تماماً وأصبح يبيع كرامته الوطنية مقابل ألفين من الليرات، أي ما بات لا يتجاوز ال 28 دولاراً للتظاهرة الواحدة. ربما نجد هنا أحد مفاتيح الشيفرة المطلوبة لفهم لغة الأسد ونظامه. فالمشكلة كما أعلن في خطابه هي في المفاهيم لا في الوقائع. وهذا صحيح إلى حد كبير وهو مبرر الثورة وقمعها الوحشي معاً. لنضع أنفسنا مكان الطغمة العائلية الحاكمة وننظر إلى ما يحدث بعيونها: إذا كانت سورية الجمهورية تورَّث من الأب القائد إلى ابنه الكاريزمي الملهم، فأي شيء أكثر طبيعية من أن أي اعتراض على هذا الشاب وعائلته ومافياته وعصاباته المسلحة من أجهزة أمن وشبيحة، هو الخيانة الوطنية التي تستوجب الذبح الحلال في الآن والمكان؟ نريد القول: إذا كان الوطن هو الحاكم الفرد العبقري الملهم الذي أوحى إليه أن كن فكان، فالبداهة البشرية تقول إنه هو من يحدد المواصفات المعيارية للمواطن الحق. هذا ما كانت عليه الحال طوال نيف وأربعين عاماً. كان بضعة آلاف من «المرضى» ممن حجب الله بين أبصارهم وبصيرتهم وبين الواقع الحقيقي، يوضعون في مصحات وطنية لإعادة التأهيل، لعل أشهرها سجن تدمر الصحراوي وأقبية فروع الأمن في مختلف المدن السورية. غير أن الثورة إنما قامت لقلب هذا المفهوم والمفاهيم المترابطة. أراد الشعب أن يعيد الى الوطن دلالته المعروفة في كل مكان خارج سورية، وأن يستعيد نظامه الجمهوري الذي حوَّله حافظ الأسد إلى نظام سلالي. فالرئيس في النظام الجمهوري يستمد شرعيته من الشعب، في حين أن الشعب هو من يستمد شرعيته، في النظام السلالي المترنح، من الحاكم الفرد. وها هو يعلن في ظهوره الخامس في زمن الثورة أن قسماً فقط من الشعب يتمتع باعترافه، مقابل قسم آخر فقد هذه الحظوة بعدما تمرد على مصدر كل شرعية وارتبط بما يحاك من مؤامرات خارجية على الحاكم الفرد، أي الوطن. يعني امتناع السياسة في زمن الثورة السورية فقدان أي لغة مشتركة بين الحاكم والشعب. كيف له أن يفهم عبارة «سورية لكل السوريين» وهو الذي نشأ على مفهوم «سورية الأسد»؟ الشعار الأول يعبِّر عن فساد الرعية التي تطاولت في لحظة طيش على ملكية الغير، في حين يعني المفهوم الثاني في نظر الشعب سطواً مسلحاً على ما يعود اليه. وعند الحاكم كل معارضة لحكمه هي خيانة تستوجب الطرد من جنة الوطن، أما الشعب الذي ثار عليه فقد هتف منذ اليوم الأول: «خاين اللي بيضرب شعبو» معبراً عن طلاقه النهائي مع الحاكم. بعد خمسة عشر شهراً من الثورة والدماء، لم يعترف بشار بعد بأنه مجرد رئيس في نظام جمهوري يستمد شرعيته من الشعب، وأن بقاءه في وظيفته يتوقف على إرادة الشعب. وقد فضَّلَ أن يبقى حاكماً على قسم من السوريين بالإرغام على أن يدين بحكمه لسورية كاملة لرضى الشعب. هذا موقف منسجم مع نظام المفاهيم الذي لطالما ساد في مملكة الأسد: سيبقى الحاكم هو الوطن الذي تتطابق خريطته مع جغرافيا الموالاة غير المشروطة، وليذهب أهل الخيانة إلى الجحيم. وهكذا نرى كم تقلصت سورية الأسد على مراحل ثلاث: في حزيران (يونيو) 1967 تخلى وزير الدفاع حافظ الأسد عن مرتفعات الجولان لمصلحة إسرائيل مقابل أن يبني مملكته العائلية على ما تبقى. وفي 2005 تخلى ابنه عن لواء الاسكندرون لمصلحة تركيا مقابل استمرار العرش السلالي الذي اهتز بعد اغتيال رفيق الحريري. وفي الخطاب الأخير تخلى الأسد عن معظم الجغرافيا السورية المتمردة ضده لمصلحة وُطَيْن الموالاة الصغير. في غضون تاريخ المملكة الأسدية هذا، كان الأب المؤسس قد حوَّلَ مملكته المنقوصة الجولان إلى امبريالية استولت بالقوة المسلحة وبتفويض دولي على لبنان، فحكمه ثلاثين عاماً بإدارة حروبه الأهلية. وجاء زمن آخر حين سحب الأوصياء الدوليون تفويضهم من الوريث، فتقلصت الامبراطورية الأسدية إلى حالتها الأولى وانكفأ الحاكم إلى داخل حدود مملكته. هنا حدث الخلل الجسيم الذي سيؤدي بالمملكة إلى مصيرها المحتوم: كان لبنان طوال العقود الثلاثة من الاحتلال الأسدي هو مصدر تمويل الولاء المطلق لبنية النظام الأمنية. فشكَّلَ طرده من هناك خطراً على تماسك هذه البنية. ولم يبق أمام النظام إلا تعويض موارده الاستعمارية باستعمار الداخل نفسه من خلال الانتقال من الاقتصاد الاشتراكي إلى ليبرالية جشعة نواتها عائلات ثلاث: الأسد ومخلوف وشاليش، إضافة إلى آخرين من «صغار الكسبة» وشبكة واسعة من الموالين المتفاوتي الامتيازات. انتهى العقد الاجتماعي الذي قام على معادلة فاسدة: الحرية مقابل الخبز. وإذ بالرعايا الخانعين يتحولون إلى شعب هادر يطالب بالاثنين معاً. كيف لا يفكر الحاكم - الوطن أمام هذا المشهد الغريب بأن ما يحدث إنما هو مؤامرة خارجية؟ لو كنتُ مكانه لأصبتُ بانهيار عصبي ينتهي إلى الذهان. * كاتب سوري