بعد مرور أكثر من عام على انطلاق الحراك في سورية، يجد المراقب للمشهد السوري أن ما تم انجازه حتى الآن قد أصاب مقتلاً في عمق النظام بشكلٍ أكثر جذرية من بعض الدول التي أنجزت مقولة اسقاط النظام شكلياً وتسعى الى تقويض المضمون. ذلك أن الحراك السوري استطاع تعرية المقولات والشعارات التي أنبنى عليها النظام السوري عبر السنوات الأربعين الماضية، ليضع النظام أمام ضرورة إسقاط نفسه بنفسه ولو إلى مستوى أقل شأناً! بداية بنى حافظ الأسد شرعيته أساساً على الغلبة، ودعمها بقطع فسيفساء من واقعه السياسي والثقافي بمنهج براغماتي تغلف بالمبدئية. وبعد وفاته استلم بشار الأسد بسهولة بينت تواطؤاً دولياً إقليمياً فاجأ العقول البسيطة التي لطالما صدقت ادعاءات الأسد الأب بأنه يخوض مواجهة مع الإمبريالية ومع دول الخليج التي لطالما وصفها جرياً على عادة يساروية ب «الرجعية العربية»، وأظهرت حجم إطباق النظام الأمني الشمولي على المجتمع، وانسحاق المعارضة الداخلية. إلا أن هذه السلاسة لم تخفِ ضعفاً كبيراً في الشرعية، حيث لم تستطع خطابات الأسد الابن عن الإصلاح في بداية عهده من ترميمها فاختار الغلبة مرة أخرى سبيلاً له، وحاول على مثال أبيه تحويل صراعات حكمه الداخلية والخارجية إلى قضيةٍ عامةٍ، بأمل أن يتبناها المجتمع السوري فيتوحد حول السلطة. حينما انطلق الحراك الشعبي، كانت هناك تخوفات كبيرة لدى السلطة، فزمن من الاسترخاء إلى المنعة الداخلية تبدد بشكلٍ مفاجئ، وهو ما جعلها تسارع إلى الركيزة الطائفية الأكثر ضمانة من وجهة نظرها. واستخدم رجال السلطة من أجل الوصول الى هدفهم تفعيل ذاكرة المظلومية، وإثارة فزع العلويين من عدو تم تصويره على أنه سلفيٌ متطرفٌ دموي. وبنجاحهم هذا حققوا تماسك بنيتهم وأدواتهم الطائفيتين، وحاضنتهم الاجتماعية. أفضى الصراع بين السلطة والحراك الشعبي في سنته الأولى إلى عدة نتائج: أولاً، تأمين السلطة لحاملها الطائفي، وسعيها لمأسسة هذا الحامل؛ وبمقدار تحقيقها لنجاح في مسعاها هذا كانت تدعم الفعل النقيض بتوفير مزيداً من شروطه. ثانياً، انشقاق المجتمع السوري عن نظام فقد آخر عناصر شرعيته حينما واجه الاحتجاجات الشعبية بالقذائف، وفقد آخر أثر مصداقيته حين روى في أجهزة إعلامه عكس ما كان الناس يرونه بأعينهم. ثالثاً، سفور وجه السلطة مع التصاعد الوحشي للقمع الذي وصل إلى حد القتل الجماعي، ما وضع النظام السوري في مواجهة مع العالم والدول العربية، الخليجية تحديداً التي أظهرت حرصها على الدم السوري المراق من قبل سلطة الاستبداد. رابعاً، انكشاف زيف إدعاءات السلطة بخصوص الصراع مع إسرائيل، ومقولات الممانعة التي تكررها، حينما خبر الناس بأنفسهم كيف تطلب ود إسرائيل، وكيف ترفض الأخيرة التغيير في سورية بدعوى أن الوضع القائم هو الأنسب لها. خامساً، انتقال سورية من دولة توازن إقليمي تشارك في رسم مستقبل محيطها، إلى ساحة صراع إقليمي. وهكذا قوض الحراك الشعبي ما تبقى من ثقة بإدعاءات النظام المنهار، فلا وحدة، ولا حرية، ولا اشتراكية، وكذا كشف زيف مقولات العروبة والقضية القومية، وفند الصورة التي رسمتها السلطة عن نفسها على أنها في مواجهة دائمة مع إسرائيل ومركز الممانعة. ليظهر بذلك مدى تهافت النظام السياسي حتى بعين النواة المركزية للسلطة ما دعاها للتخلي عنه. وظهر ذلك في الخطوات التي قامت بها، ومنها إعلان دستور جديد منزوع منه المادة الثامنة التي جعلت من حزب البعث العربي الاشتراكي الحزب الحاكم لسنين مضت، وإعلان قانون الأحزاب الجديد بإيهاب إصلاحاتٍ تدعي أخذ المطالب الشعبية في الاعتبار! بينما هي تستعيض عن سبل سيطرتها السابقة بوضع صلاحيات سلطانية بيد الرئيس ليكون الضامن لبقاء سطوتها في ظل أي نظامٍ بديل تنتجه. ومن هذه الخطوات نفهم أن السلطة أخذت القرار بإعادة بناء النظام، بل ببناء نظامٍ جديدٍ لا دور يعول عليه لحزب البعث إلا بمقدار ما يستطيع القائمون عليه إعادة صوغه لخدمة وظيفة خدمة العائلة المالكة. وللغاية نفسها اندفع أهل الحكم في البحث عن ثقاتٍ من خارج الطائفة العلوية، فأُرسل لهذا الهدف وئام وهاب إلى الطائفة الدرزية ليقوم ببناء فرعٍ لحزبه، حزب التوحيد العربي، وبالتالي مأسسة حزبية للطائفة. الأمر نفسه تكرر لدى الطوائف والأثنيات، أي تحزيب الأقليات الدينية والعرقية بارتباط مع مأسسة ممركزة للطائفة العلوية. وبهذا يظهر كيف يجري إعادة بناء النظام السياسي ليصبح نظاماً طائفياً تاماً يثبت تذرر المجتمع السوري ويؤدي، وفق رغبة السلطة، إلى بناء تحالفٍ طائفيٍّ يتحلق حول طائفة علوية مُمأسسة مستلهمين التجربة اللبنانية. ويتوقع أن يكون هذا النموذج الذي ستقدمه السلطة للعالم على أنه الأكثر ديموقراطية وتعددية في المنطقة. «قولوا ما تشاؤون وسنفعل ما نريد». وبذلك فإن ما يؤشر إليه سلوك النظام هو استبدال الوحدة الوطنية الصورية، بنظام طائفي، مصحوباً بتحالفاتٍ خارجيةٍ تخندقت إلى جانب النظام السوري، ليستعيض عن فكرة القومية العربية بفكرة التحالفات الجيوبولوتيكية، ودعم خفي لأحزاب اليسار التقليدية التي ما زال صمود النظام السوري يدغدغ رغباتها الأثيرة لمواجهة «الامبريالية العالمية»، وأيضاً تسريبات عن تقديم تطميناتٍ ما لإسرائيل على المدى المنظور. وبعد القضاء على الحراك سيكون للشعب السوري التعبير عن «حريته» عبر حوامله الجديدة الطائفية والاثنية... هو سقوطٌ مدوي للنظام السوري السابق، واستمرار للسلطة نفسها في نظام سياسي جديد! في مواجهة سيناريو النظام الجديد، الذي تنحو السلطة السورية لصنعه، لا مناص من خطوات ضرورية من قبل المعارضة للنجاح في الحفاظ على الجمهورية السورية (وحدة أرضها وشعبها ودولتها) ولعل أهمها: إنشاء عقد اجتماعي جديد؛ ومواجهة الطائفية بكل صعيد؛ وتنظيم العملية الثورية، وعلى وجه الخصوص ضبط المكون العسكري في الثورة. وجعل الوطنية السورية الواسعة، صاحبة الحساسية للتعدد، التي انتجها الحراك الشعبي، المشروع البديل لمشروع النظام التفكيكي. * كاتب سوري