عاد الشعب المصري لكي يقول كلمته بعد أسبوع حافل في المشهد السياسي المصري، وانتهاء العمل بقانون الطوارئ بعد ثلاثة عقود، وبدء الحملة الدعائية لجولة الإعادة بين المرشحين؛ الدكتور محمد مرسي، والفريق أحمد شفيق، وبدء التصويت للمصريين في الخارج لجولة الإعادة، وأخيراً، وبأهمية خاصة، النطق بالحكم في الدعاوى القضائية المرفوعة ضد الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك وأنجاله ومعاونيه، تلك المحاكمة التي أطلق عليها الإعلام المصري «محاكمة القرن»، مع أنها المحاكمة الثانية بعد محاكمة صدام حسين، ولن تكون المحاكمة الأخيرة، فقائمة انتظار المحاكمات من الرؤساء طويلة... لا يزال أمامنا عدد من المحاكمات سنشهدها لعدد من الرؤساء العرب، الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، الرئيس الليبي معمر القذافي، الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، الرئيس السوري بشار الأسد. صحيح أن أحدهم لا يزال هارباً، والآخر قتل، وآخر يتمتع بشيء من الحصانة، والأخير لا يزال في السلطة، لكن سير العدالة قد يسير ببطء، ومطالبة الشعوب قد تهدأ لبعض الوقت لكن المحاكمة والأقفاص لمن استغلوا شعوبهم وأوطانهم قائمة طال الزمان أم قصر. عاد الشعب المصري إلى الميادين بعد ساعات من النطق بالحكم على الرئيس المخلوع حسني مبارك ووزير داخليته حبيب العادلي بالسجن المؤبد، والبراءة لنجليه جمال وعلاء، والبراءة أيضاً لمساعدي وزير الداخلية... السؤال الذي لم تجب عنه المحاكمة التي دامت أكثر من عام، ونزلت جماهير الشعب المصري إلى الميادين للبحث عن إجابته هو: من قتل شهداء الثورة؟ إذا كان القضاء لم يجد بين يديه أدلة كافية، وخلت «ست» مرات، حيثيات الحكم من أي أدلة إدانة، وبعض التهم سقطت بالتقادم، وأن أحد المسؤولين لا يزال محبوساً بتهمة إتلاف أدلة الإدانة، فلماذا تصر المحكمة على النطق بالحكم قبل اكتمال أركان القضية وتصبح مستوفية لكامل الشروط؟ من مشاهدتنا نرى أن هناك اختلاطاً بين الحق والعدل، الحق يعتمد على الواقع، بمعنى أن الثوار قتلوا عياناً بياناً، أما العدل فيحتاج إلى أدلة واضحة وقاطعة تستقر في عقيدة القاضي والمحكمة لكي يحكم القاضي والمحكمة باطمئنان، لكن المحكمة حكمت وبحكمها قضي الأمر وأصبح الشعب في مزيد من الحيرة والشك والفوضى وعدم الثقة، وامتزج القانوني بالسياسي بالأمني بالانتخابي. النطق بالحكم أشعل الميادين، وحرك مفاصل الثورة، وجدد دماء الثوار، نزل الجميع إلى الشوارع والميادين حتى المرشحين للرئاسة، من فاز ومن خرج من السباق، كلهم وجدوا في تجمعات الميادين فرصة سانحة للتعبير عن شيء ما، لكن الثابت أن هناك سيناريوهات جديدة من أشهرها اثنان: السيناريو الأول، القبول بالحكم باعتبار أنه نصر لم يحدث في تاريخ مصر أو العالم العربي - باستثناء العراق - إذ أطيح برئيس وحوكم ونفذ الحكم، والمضي في الانتخابات باعتبارها نصراً جديداً في الطريق إلى الديموقراطية وأنها، أي الانتخابات، جاءت حرة ونزيهة بحسب شهادة جميع المراقبين من الداخل والخارج، بصرف النظر عن تعريف البعض للحرية والنزاهة، وحشد الجهود والاستعداد للجولة الثانية واختيار الرئيس الأنسب حتى ولو كان «أحلاهما مر»، وترك الكلمة الفصل لصندوق الانتخابات. ملخص السيناريو الأول هو «أن ما لا يدرك كله لا يترك جله»، وأن النجاحات التي حققتها الثورة كثيرة وكبيرة قد لا تتجسد أو تتطابق مع توقعات الشارع، أو حتى النخب السياسية ولكن لا يمكن، ولا يجوز إنكارها، ولابد من انتشال البلد مما هي فيه لقطع الطريق على كل المتربصين، وفتح الطريق لكي يكسب المواطن لقمة عيشه بأمن وأمان بعد أشهر طويلة من شبه التوقف التام. السيناريو الثاني: أن هناك فرصة جديدة لاستعادة الثورة رونقها وعدتها وعتادها، خصوصاً أنه أصبح للثورة قادة ورموز الآن أفرزتهم صناديق الاقتراع بكل وضوح، ويمكن لأولئك القادة أن يرسموا برنامجاً واضحاً يتم فرضه على الجميع بقوة الميادين لتحقيق جميع مطالب الثورة، ومن أهمها أخذ حق الشهداء ومعاقبة الجناة، وإعادة البناء على أسس صحيحة. يعتمد السيناريو الثاني على أن النطق بالحكم الذي طال أمده لم يأتِ مخيباً للآمال فحسب، بل أكد ومن دون أدنى الشك اللعبة، أو المسرحية الهزلية التي استمرت منذ خلع رأس النظام السابق. كان الشعب المصري طوال الأشهر الماضية بين مصدق لتلك الإشاعات القائلة إن النظام السابق سيعود وبقوة ولو بأسماء وأشكال متعددة، وبين مكذب لتلك الأقاويل ومستبعد لنظرية المؤامرة، ولذا جاء النطق بالحكم على مبارك ووزير داخليته بالمؤبد، والبراءة لكبار مسؤولي الأمن ولجمال وعلاء، نجلي الرئيس، «كالشعرة التي قصمت ظهر البعير». وأصبح رجل الشارع العادي يتساوى مع النخب في فضح اللعبة من بدايتها وما ستؤدي إليه. يرى السيناريو الثاني سبعة حلول لابد منها ستتمكن من تحقيق أهداف الثورة لإعادة مصر إلى الطريق الصحيح: تشكيل مجلس رئاسي. فترة انتقالية لمدة من سنتين إلى ثلاث سنوات. حكومة إنقاذ وطني. تشكيل الجمعية التأسيسية. صياغة الدستور. انتخابات جديدة للبرلمان. انتخابات رئاسية جديدة. بالمناسبة، كثير من هذه الحلول سبق طرحها خلال الموجة الأولى من ثورة 25 كانون الثاني ( يناير)، إلا أنها لم تلق أذناً صاغية لأسباب عدة من أهمها قوة زخم الثورة، عدم وجود قيادات ورموز واضحة لمن هم في الميدان يمكنهم من فرض شروطهم والتعبير عن مطالب الثوار عبر حزمة مترابطة، الأنانية السياسية التي لعبت دورها حينئذ فأفشلت الفكرة. يرى كثير من المراقبين أن السيناريو الثاني، على رغم صعوبة تنفيذه، هو الأسلم لكل الفرقاء المعنيين والقوى السياسية والشعب المصري وحتى في منع تآكل الدولة وهياكلها، يرون أيضاً، أن الاستمرار في السيناريو الأول تحت ذريعة «ليس بالإمكان أفضل مما كان»، أسلوب خاطئ وضعيف لا يستقيم مع ثورة أطاحت برأس نظام فاسد، ولابد أن تستكمل تلك الثورة لتطهير البلد مما تبقى من جسد النظام، إذ إن البناء على باطل يعتبر باطلاً، كما تقول القاعدة الشرعية. القائلون بصعوبة تحقيق السيناريو الثاني هم من أنصار السيناريو الأول، لكنهم ينسون حقيقتين أساسيتين تختص بهما مصر وحدها عالمياً وعربياً، الحقيقة الأولى: أن مصر عابرة اللغات والأديان والرسالات والقارات والحضارات، ولذا فإن جدلية الزمان والمكان تتخذ تعريفاً ومنحى مختلفاً عند الحديث عن مصر، ولو تم وضع دستور في مصر لا يضع من بين مواده ديناً بعينه أو لغة رسمية بعينها، فإن ذلك لا يعيب مصر، بل يصبح منطقياً جداً، الحقيقة الثانية: أن مصر دولة أمة، وليست أمة دولة، كما تعرفها النظرية السياسية ويفصلها البروفيسور باري بوزان في كتابه الشهير «الشعب، الدولة، والخوف»، الفرق بين دولة الأمة، وأمة الدولة، في التعبير السياسي أن الإطار السياسي في الأولى لاحق، بينما في الحال الثانية يعتبر سابقاً... كيف؟ في دولة الأمة يتشكل الإطار السياسي تبعاً لمراد ورغبة الشعب/ الأمة - تعريف الأمة بالمناسبة هو وحدة السلوك - وهذه الحال تنطبق تماماً على مصر وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان وعدد قليل من الدول، بينما أمة الدولة يتشكل فيها الإطار السياسي أولاً ومن ثم يأتي الشعب لكي ينضوي تحت ذلك الإطار مشكلاً أمة، مثال ذلك: الولاياتالمتحدة الأميركية، استراليا ومعظم دول العالم. نموذج دولة الأمة يتشكل من الأسفل إلى أعلى، بينما يكون من الأعلى إلى الأسفل في نموذج أمة الدولة. نخلص إلى أن مراد الشعب المصري هو الحاكم الذي سيتحقق إن عاجلاً أو آجلاً، حتى لو استمرت الانتخابات ونجح أي من الفريقين: الإخوان ومرشحهم الدكتور محمد مرسي، أو النظام القديم والفريق أحمد شفيق، فسيظل الشعب والشارع والميدان عقبة كأداء أو كؤود، كما يقول اللغويون، أمام أي رئيس جديد حتى لو أفرزته صناديق الاقتراع. إذن، الحكمة تقضي بأن يصار إلى رغبة الشعب المصري الذي قام بثورة سلمية وهادئة شهد لها العالم، وعندها يكون حكم الشعب على نفسه، فبينما الثورات المعروفة في تاريخنا المعاصر استمرت بمتوسط خمس سنوات، فلا ضير أن تستمر الثورة المصرية سنتين شريطة أن تنجح بمقاييس وتعريف الشعب نفسه للنجاح... حفظ الله مصر. * باحث سعودي. turadelamri@