نص أحد القرارات الأخيرة التي اصدرها رئيس الوزراء الروسي الحالي ديمتري مدفيديف، قبل ساعات من انتهاء ولايته الرئاسية السابقة في الكرملين، على تنظيم دورة تأهيل مكثفة لألف موظف حكومي في أساليب مكافحة الفساد. شكل ذلك نهاية تجربة مريرة لمدفيديف الذي اعترف خلال ولايته الرئاسية بعقم كل الخطط والبرامج التي وضعت لمواجهة «غول الفساد» المستشري في روسيا، ولم يتردد في وصفه بأنه «لم يعد مجرد مرض أصاب المجتمع والدولة، بل جزء من سلوك وطني يعيق التطور». لكن تأهيل «جيش صغير» لمواكبة مهمات منصبه الجديد رئيساً للوزراء الجديد في مواجهة «العدو الأكثر شراسة» لروسيا في الداخل لا يبدو كافياً، رغم إجماع الخبراء على الحاجة الى كادر مؤهل يضع خطط الإصلاح على سكة التنفيذ. والواقع ان البلد الأكبر في العالم على صعيد المساحة احتل أحد المراكز الأسوأ على لائحة الشفافية العالمية لسنة 2011، وتحديداً المركز 143 الى جانب دول مثل تيمور الشرقية وأوغندا وجزر القمر وموريتانيا. وتكشف أرقام نشرتها لجنة مكافحة الفساد التي شكلها الكرملين، مدى تغلغل الفساد في نواحي الحياة اليومية، وتكبيده روسيا خسائر تناهز 30 بليون دولار سنوياً، فيما يقدر الخبراء حجم «دورة الفساد» بنحو نصف الناتج الوطني للبلاد، وهو ما أكدته دراسات البنك الدولي. وأفاد تقرير اللجنة بأن الرشاوى تطاول 90 في المئة من الخدمات الممنوحة للمواطنين، وبينها 80 في المئة في المؤسسات التعليمية. ويشكو قطاع الأعمال من أن نصف موارده يلتهمها الفساد في أوساط الحكومة وهياكل الدولة. وكشف ديمتري فيرسوف، الخبير في مؤسسة «الأيدي النظيفة» التي تراقب أداء الدولة في هذا الملف، تلقيه شكاوى كثيرة ترتبط بعمل أجهزة الأمن ودوائر القضاء، بينما يفضل الخبراء عدم التطرق لسلوك جهاز شرطة المرور، المؤسسة صاحبة السمعة الأسوأ في هذا المجال. ويكفي أن المبلغ المطلوب للحصول على وظيفة شرطي مرور في إحدى المناطق «الدسمة» في العاصمة يزيد عن 50 ألف دولار، يعوضها صاحب الحظ السعيد بعد شهور قليلة على تعيينه. وتطول اللائحة الخاصة بمظاهر الفساد في روسيا، فيما يجمع الخبراء على ان المشكلة تتعدى حياة المواطن الى تهديد الدولة ووجودها. ويشدد خبراء على ضرورة سير روسيا نحو حكم شمولي صارم يشبه الحال في عهد الزعيم السوفياتي جوزف ستالين الذي حارب الفساد بشكل دموي حازم، بينما يرى آخرون ان توسيع هوامش الديموقراطية في المجتمع يشكل السبيل الوحيد لمواجهة الخطر المتفاقم و«هو ما فعلته دولة جورجيا الصغيرة لاقتلاع الفساد». وتعكس خطة الحكومة الجديدة ميل مدفيديف، رافع لواء التحديث والإصلاح، الى توسيع هوامش الديموقراطية. لكن بعض الروس يتعامل مع خطط مدفيديف بطريقة «أسمع كلامك يعجبني وأشوف أفعالك أتعجب»، في تشكيك بقدرته على تحقيق تقدم في معركته مع الفساد. ويبرر المشككون موقفهم بأن مدفيديف فشل حين امتلك صلاحيات منصب الرئيس التي لا تعد ولا تحصى، فكيف ينجح الآن؟ كما يشير البعض إلى أن ترؤس مدفيديف حزب «روسيا الموحدة» الحاكم يزيد الشكوك في قدرته على مواجهة المشكلة، باعتبار ان الحزب يضم جيشاً من موظفي الدولة، ما يجعله المتهم الأول بصب الزيت على نار الفساد. الى ذلك يقود مدفيديف فريقاً غير منسجم مع طروحاته، بدليل ان رجال دولة كثيرين ابدوا علناً عدم رغبتهم في العمل تحت قيادته، وبينهم وزير المال السابق اليكسي كودرين، أحدى الشخصيات المعروفة بنزاهتها في الغرب، ونائب رئيس الوزراء السابق ايغور سيتشين المقرب من الرئيس فلاديمير بوتين، والذي تجري أحاديث حالياً عن احتمال ترؤسه اللجنة المركزية لمكافحة الفساد. وفي انتظار اتضاح ملامح الخطوات الأولى التي سيتخذها رئيس الوزراء الجديد خلال الشهور المقبلة، لا يظهر غالبية الروس اهتمامهم بشعارات مكافحة الفساد، خصوصاً مع حلول الصيف وموسم الإجازات، وانشغال عائلات كثيرة بتدبير مبلغ الرشوة المطلوب لقبول الأطفال في الحضانة في الموسم الدراسي المقبل.