يحتل الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس (1928 – 2012) مكانة بارزة في المشهد الروائي الأميركي اللاتيني... روائي غير سهل وكاتب يتمتع بقدرات تتجاوز حقل الكتابة الروائية إلى حقول معرفية نخبوية أخرى، مثل الفلسفة والفكر والنقد الأدبي. يستعيد في كتابته الروائية التراث النثري العريق الذي عرفته الرواية تاريخياً منذ سيرفانتس ورابليه ليبني منه عمارة روائية مركبة من الأشكال الحديثة للرواية (متأثراً بفوكنر، ودوس باسوس)، ويمزج في كتابته بين الشعر والفلسفة والتاريخ والآثار، ويضمن رواياته أجزاء من نصوص وروايات من الماضي. لكن مصدر الصعوبة في عمل فوينتس يكمن في قدرته على تركيب هذه الأشكال والخطابات في نسق روائي متماسك محتفظاً في معظم أعماله بالقدرة على الوصف الحي والسخرية واستعارة اللغات واللهجات المتعددة لإنتاج كون روائي أشبه بمشهد احتفالي للحياة. الفكرة الجوهرية التي تحدد فهم فوينتس للتاريخ ذات طبيعة جبرية ترى أن تأثير الماضي في حياة الإنسان شيء يتعذر اجتنابه ولا يمكن الفكاك منه، بل إن الماضي يعيش معنا وداخلنا وينتقل معنا. يؤمن فوينتس بأن الحرية شيء تراجيدي لأنها تعي ضرورتها، كما تعي حدودها (والحد الأخير لها هو الموت). ومن ثمّ، يرى أن التراجيديا عنصر ضروري وإيجابي للشرط الإنساني، وأن الألم الذي يسببه وعي هذا الشرط يمكن التغلب عليه من خلال فعل الصراع والتحدي. هكذا يبدو «الفعل» والوجود مترادفين بالنسبه اليه، لأن الصراع (وهو الفعل بالنسبة الى فوينتس) هو السمة الأساسية للتاريخ والإنسان. من هذه التركيبة من الأفكار الفلسفية، التي نشهد فيها تأثير نيتشه وسارتر وفوكنر، يضفر فوينتس رؤيته للثورة المكسيكية التي تحتل قلب عمله الروائي. ولذلك فإن فهم فوينتس للانهيارات التي تعرضت لها الثورة المكسيكية، والتي يتحدث عنها بصورة استبارية في رواية «موت أرتيميو كروز»، ينبع من هذا الفهم الجبري لطبيعة التاريخ. إن التاريخ صراع، لكن الإنسان، على رغم ذلك، بحاجة إلى وهم الحرية لكي يستطيع الاستمرار في العيش. ليس غريباً، بالنسبة الى فوينتس، أن تسيل أنهار الدم الغزيرة تلك طيلة أكثر من مئة عام بعد وهم تحقق الثورة المكسيكية. إن «موت أرتيميو كروز»، وهي أشهر رواياته، مشغولة تماما بكشف ما يدعوه فوينتس طابع التسلط. إن أرتيميو كروز هو الوجه الآخر للتسلط، أي الشخصية التي تتحكم من خلال المال بمقدرات الناس ومصائرهم. لكن فوينتس يمزج معالجته التشريحية لطبيعة السلطة بمعالجة تاريخية. إنه شديد الاهتمام بالتفاصيل والوصف الدقيق لنثر الحياة اليومية: الأثاث، والممارسات التافهة، وحركة الناس في الشوارع، والمطاعم، والبحر... إلخ. إنه يعالج الثورة المكسيكية وأوضاع المكسيك السياسية والاقتصادية واليومية والانهيارات الحاصلة في جسم الثورة، التي أصبحت نهباً لجنرالات يتقاتلون من أجل نفوذهم الشخصي. عند هذه النقطة الحاسمة من الصراع يتحول أرتيميو كروز من مقاتل مع الثورة (مختلطة الهوية) إلى شخص متعطش للسلطة. هكذا يصعد نجم أرتيميو كروز، المتحدر من صلب أتانازيو، ابن أحد الجنرالات الذين وطدوا سلطة الحكام الكولونياليين، كابن سفاح من خلاسيّة مكسيكية. لقد كان متشبعاً في بداية حياته بالأفكار الثورية وأحلام التغيير والمساواة، ولكنه عندما يتعرض للموت ويخون رفيقيه (الهندي، وغونزالو برنال) يقرر أن يعيش ويغير مسار حياته، فيذهب إلى والد رفيقه غونزالو برنال، ويتزوج أخته كاتالينا، ويقوم بإدارة أملاك الإقطاعي العجوز برنال الذي بدأت سلطته بالانحدار بعد التحولات التي طرأت على المكسيك في بداية القرن، ليصبح أرتيميو كروز أكثر رجال المكسيك غنى وتحكماً في السلطة. إن ما يلفت في رواية «موت أرتيميو كروز»، بارعة التركيب، هو تلك المهارة الأسلوبية في تحقيق التوازن بين شريط ذكريات كروز وشريط هلوساته على سرير المرض الذي يفضي به إلى الموت. هكذا يتواتر سرد الهلوسات مع سرد الذكريات في عملية انتقال منظمة بين هلوسات المريض وذكرياته التي يستثيرها تاريخ أو حادثة أو اسم أو كلمة، ليعود إلى يوم محدد في حياته المزدحمة بالأحداث والذكريات والتحولات. تحقق أحداث «موت أرتيميو كروز» فكرة فوينتس عن ضرورة التضحية من أجل الوصول إلى ولادة جسدية وروحية جديدة، وهي الفكرة المسيطرة في معظم أعماله الروائية. ولذلك تتم ولادة أرتيميو كروز في اليوم نفسه الذي يموت فيه والده. إن فوينتس يؤمن بأن الحياة كحقيقة فيزيائية واختبار وجودي هي، وبصورة طبيعية، نتاج التضحية، والتضحية، في رواياته، وسيلة من أجل الحفاظ على الثورة. لكن هذه الفكرة، مسيحية الجذور والتي تستلهم عقيدة الافتداء والخلاص، تتحول في أعماله الروائية إلى فكرة جبرية سوداوية عن التاريخ. لكن فوينتس، على رغم هذه الرؤية السوداوية، يؤمن ككاتب ومفكر أنه من هذا العماء يستطيع المكسيكي أن يصنع أفق أيامه، إذ من دون فهم الماضي القريب والبعيد لن يستطيع الشعب المكسيكي أن يصل إلى المستقبل الذي يطمح إليه. يجدل عمل فوينتس، بحيوية نادرة، تناقضات الحياة الإنسانية، صانعاً منها ما لا يمكن نسيانه. في «موت أرتيميو كروز» نشهد شخصية أرتيميو المركبة المنطوية على الحنان والقسوة معاً، والثورة والخيانة، والحب والكره معاً في الوقت نفسه. إن أرتيميو هو نقيض ذاته، وحياته التي تصعد به إلى قمة الهرم هي التساؤل المرير عن الحدود الفاصلة بين هذه الثنائيات المتناقضة. ومن ثمّ، فإن أرتيميو يدرك أن خيانته يجب أن تجد لها حلاً، فيربي ابنه لورنزو على مبادئه الثورية السابقة، ليتطوع الابن في الحرب الأهلية الإسبانية ويموت. لقد اختار لورنزو طريق أبيه الذي لم يكمله، ودفع ثمن خيانته. كذلك الأمر بالنسبة الى فكتور هيريديا وبرانلي، أو كارلوس فوينتس أو هوغو هيريديا في «علاقات بعيدة». إنها شخصيات نقيضة تمثل هذا العالم المنقسم على ذاته ما يسمح لجرثومة الصراع بأن تفعل فعلها في الحياة البشرية. لكن الأشياء تظل، كما يقول هوغو هيريديا، «متصلة ببعضها. ليس هناك شيء قائم منعزل بذاته، فعندما يولد الطفل ترافقه جميع علاماته التي تدل عليه: اليوم، والباعث الفيزيائي، والاتجاه في الفضاء، واللون، واللحظة الزمنية، والعاطفة، والحرارة. لكن هذه العلامات الشخصية تكون مرتبطة بالعلامات الأخرى جميعها، بالعلامات النقيضة والعلامات المكملة والصور السابقة. لا شيء يوجد معزولاً قائماً بذاته». إن ما يتحكم في هذه التساؤلات هو رؤية جبرية لمصير الأشياء والعالم، رؤية لن تجدي معها صرخة أرتيميو كروز، ولن تغير من طبيعة النظرة التي يجدل من حولها فوينتس عمله، ذلك العمل المنسوج من الأحلام والوقائع والتذكرات المعتمة، والمقاطع الغنائية، والمشاهد السحرية، ومشاهد الطفولة الغائمة، والأوهام، والانهيارات والدمار والتاريخ الملوث. تاريخ العالم الجديد يحاول فوينتس في إنتاجه الروائي أن يسجل تاريخ اميركا اللاتينية. في روايته الضخمة «أرضنا» Terra Nostra يسعى إلى كتابة تاريخ العالم الجديد عبر مخيلة جامحة تمزج الماضي بالمستقبل، والتاريخ المكتوب بالتاريخ المتخيل. كأن الروائي يريد أن يخلق عالماً جديداً، أسطورياً، يعبر عن مصير العالم الجديد (أميركا)، ويرصد انهيار العالم القديم ممثلاً في إسبانيا الغازية والمُكتشِفة. إن رواية «أرضنا»، مثلها مثل أعمال فوينتس الأخرى، مسكونة بهذه الهوية الملتبسة، هوية الأميركي اللاتيني مختلط العرق الذي يعرف أنه ينتمي إلى أرضه على رغم اختلاط دمائه الهندية بالدماء الإفريقية والإسبانية... ما يسبب له دواراً دائماً يعبر عنه فوينتس في عمله هذا بالتساؤل الملح حول حقيقة الوجود الأميركي اللاتيني، وضرورة الثورات التي تنتهي، كما انتهت الثورة المكسيكية، إلى التعفن. ولعل رؤية فوينتس، جبرية الطابع، كما ذكرنا، هي التي تجعل هذه التساؤلات تفضي إلى أفق مغلق على صعيد التجارب الإنسانية. إنها رؤية متشائمة جداً، وهي تقول بأن على الكائن أن يتعايش مع شبحه حتى يموت ويصير هو شبحاً لمن كان شبحه. ورواية فوينتس «علاقات بعيدة» تنسج خيوطها من هذه الرؤية الجبرية لحياة الكائن، إذ نكتشف في نهاية الرواية أن فوينتس نفسه يصبح شبح هوغو هيريديا إحدى شخصيات الرواية. ولعل هذه النهاية غير المتوقعة لعمل تأملي مثل «علاقات بعيدة» أن تكون تأكيداً للوجه الآخر للثورة، ذلك الوجه الذي تمثله شخصيات أريتيميو كروز وهوغو هيريديا. فعلى النقيض من معظم رواياته يقدم فوينتس في «علاقات بعيدة» رواية معقدة لمصير الكائن البشري ناسجاً خيوط هذا المصير من الحكايات والتأملات التي يسردها الكونت برانلي على الكاتب وهما يتناولان غداءهما في أحد النوادي الباريسية. إننا لا نصادف في هذه الحكايات سوى إشارات قليلة غير مفصلة إلى طبيعة العالم الذي يمثله الأميركيون اللاتينيون، على رغم تركيز الكونت برانلي على قسوة فكتور هيريديا الصبي على الخدم وانتقامه منهم، وقوله إن ذلك يمثل بدقة طبيعة الإقطاع. لكن برانلي ينتقل من خلال هذه الإشارات ليحكي حكاية هوغو هيريديا وابنه، وتربص الموت لهما على رغم كل المحاولات لإبعاد شبح الموت عن الصبي فكتور الذي يذهب إلى باريس لكي يموت كما مات أخوه من قبله. تتقاطع مع هذه الحكاية حكايات أخرى عن المرأة التي أحبها برانلي ولا تفارق صورتها مخيلته على رغم بلوغه الثالثة والثمانين من العمر، وحكايات أخرى عن رجل فرنسي من أصل مكسيكي يدعى أيضاً، مثل الصبي، فكتور هيريديا. لكن هذه الحكايات لا تمثل العمود الفقري للرواية، بل هي مجرد وسائل سردية للتعبير عن أفكار وتأملات واستيهامات وأحلام يسردها برانلي على الكاتب، حتى إننا في النهاية لا نعلم حقيقة الحكايات التي يرويها برانلي: هل هي حكايات حقيقية أم أنها حكايات اخترعها هو ليؤكد صحة تصوره للعالم. يبدو أن التصور الأخير قريب من الصواب لأن الحدود غير واضحة بين الحكايات التي يحكيها برانلي وتأملاته وتخيلاته وأحلامه واستيهاماته التي تنطلق من أرضية الحكايات، خصوصاً أن برانلي العجوز هو ابن القرن التاسع عشر ويعاني في دخيلائه من مرض الشيخوخة. إنه مصاب بحنين مرضي إلى طفولته التي يتخذ منها منطلقاً لتأملاته ومقارناته بين الأجيال. فهناك دائماً في هذه التأملات ثنائية تقسم الأشياء والعالم: العالم القديم الذي يحترم شيوخه لأنه يرى فيهم ذاته، والعالم الجديد الذي يهملهم ويزدريهم ويعزلهم لأنه يكره أن يرى فيهم نفسه. إن فوينتس يقيم في عمله مقارنات بين عالمين: بين العالم الجديد (اميركا) والعالم القديم ممثلاً في أوروبا العجوز التي هزمت وترفض أن تعترف روحها بالهزيمة. ومن خلال هذه المقارنة يقيم محاكمة للموت الذي يحيا معنا في كل ذرّة من ذرّات كياننا. إنه الشبح الذي يلازمنا.