كم يحتاج مسؤولو مهرجان سينمائي الى قلة الحس الإنساني كي يتركوا المتفرجين تحت أمطار مرعبة طوال نصف ساعة، قبل أن يفتحوا لهم أبواب الصالات ليدخلوا؟ وكم يحتاج المتفرجون الى صبر وحب للسينما كي يقفوا في الانتظار صامدين منهكين، ولكن أيضاً هازلين... وهازلين الى حد ان بعضهم اقترح وجود تواطؤ بين مسؤولي المهرجان ومستشفيات مدينة كان وأطبائها، لإرسال المرضى وتقاسم الأرباح! مهما يكن كانت تلك السهرة في مهرجان كان السينمائي سهرة فيلم عباس كيارستمي الجديد المشارك في المسابقة الرسمية «مثل شخص متيّم»... وكالعادة يشكل أي فيلم جديد لكيارستمي يعرض في اي مهرجان سينمائي، حدثاً كبيراً ينتظره هواة السينما وأهلها... ومعظمهم مستعد، طبعاً للانتظار طويلاً تحت المطر من أجل ذلك. ومع هذا ليس الفيلم إيرانياً... فمنذ سنوات يبدو أن سلطات إيران ضاقت بهذا الذي يعتبر اشهر سينمائي إيراني في العالم، ويبدو انه هو نفسه بات يجد المواضيع الإيرانية ضيقة عليه. وربما يمكن القول إن هذا من حظ السينما العالمية، وهذه المرة من حظ اليابان، تحديداً طوكيو التي تدور فيها أحداث «مثل شخص متيّم». ومعروف ان هذه ثالث تجربة «كوزموبوليتية» لكيارستمي بعد «أبث أفريقيا» ومغامرته الإيطالية البديعة في «نسخة طبق الأصل». إذاً، كيارستمي في اليابان هذه المرة... فهل هو هنا لتحقيق فيلم ياباني؟ ظاهرياً نعم... فالفيلم ياباني وأبطاله يابانيون، وجغرافيته ولغته وكل ما فيه ياباني... ومع هذا هو أولاًَ وأخيراً فيلم لعباس كيارستمي، يحمل ثيماته الأثيرة وكذلك إيقاعه المعهود، ويخلو كالعادة لديه من أحداث. انه ربما صورة الحياة. والحقيقة أننا إذ نستخدم كلمة «صورة» هنا فليس الأمر كناية أو عبثاً، وذلك بالتحديد لأن كيارستمي يضعنا هنا مرة أخرى أمام سؤال الصورة والواقع... أمام لعبة المظاهر وضروب سوء التفاهم، وكالعادة من خلال حكاية قد تبدو أول الأمر حكاية حقيقية. في الحكاية لقاء من نوع يحصل ملايين المرات في اليوم، في اي مكان في العالم. لقاء هو هنا بين صبية عشرينية امتهنت لقاء رجال في أماسيها مقابل مبالغ تعينها على إكمال دراستها، ورجل ثمانيني يبدو ان له مكانته وأهميته في المجتمع. والمصادفة جعلت من الفتاة في حياتها اليومية طالبة في علم الاجتماع، ومن الرجل أستاذاً سابقاً في المادة ذاتها، ولكن، لا شيء سوف ينبني على هذا. كذلك لاشيء سوف ينبني على كل «المصادفات» الأخرى و»الحقائق» الأخرى في الفيلم، لا سيما في حوارين يعتقد خطيب الفتاة في احدهما بأن الرجل جد خطيبته، وفي الثاني تعتقد جارة الرجل بأن الفتاة حفيدته... لا شيء حقيقياً سيحدث باستثناء سهرة عشاء مجهضة وجولتين في السيارة، واحدة ليلية في تاكسي توصل الصبية الى شقة الثمانيني، والأخرى صباحية في سيارة الأخير توصل الفتاة الى جامعتها... وطبعاً كما العادة في سينما كيارستمي ستكون جولتا السيارتين اجمل ما في الفيلم وأهمها، وليس فقط لأن الكاميرا والحوارات ستطلعنا من خلالهما على اجمل ما صوّرته السينما ليوميات طوكيو، حتى سياحياً إذا شئتم، بل لأن الجولتين هما المكان الذي يضع فيه المخرج هواجسه المعتادة حول الهوية والمظاهر وسوء التفاهم وهشاشة العلاقات بين البشر... قسم «مثل شخص متيّم» المتفرجين بين متحمّس له ومتسائل عن جدواه، وهو أمر يبدو لنا معهوداً بالنسبة الى سينما كيارستمي التي يحتاج أي أفلامها الى زمن قبل أن يتسلل الى العقول والأفئدة. فسينما هذا المبدع تبدو دائماً في بداية الأمر باردة، وربما تقنية أيضاً، وربما ليس ادل على ذلك من أن كيارستمي بنى فيلمه الجديد هذا، مرة اخرى، انطلاقاً من مشهد تخيّله، محوره سيارة تدور في الساحة المجاورة لمحطة طوكيو، تحاول الكاميرا من داخلها تأمل امرأة واقفة تحت تمثال الساحة من دون أن نعرف لماذا هي هناك وماذا تفعل. في الفيلم مشهد مثل هذا، لكن المرأة لا تظهر رغم أننا نعرف أنها يجب أن تكون هناك ونعرف لماذا كان ذلك حتمياً. في المقابل هناك امرأة داخل السيارة هي حفيدة الغائبة... هل يبدو هذا كله معقداً؟ ربما على الورق، ولكن على الشاشة، وبفضل سينما كيارستمي وإيقاعها المدهش، بفضل قوة بصرية في هذه السينما، ستبدو الأمور اكثر بساطة... ولكن هذه البساطة ستكون في حقيقتها خادعة بدورها، بالتأكيد.