تعاملت حكومات دول «الربيع العربي» وتلك المتأثرة به مع التطورات المستجدة اقتصادياً بعقلية إدارة الأزمات، فزادت الأجور والدعم العشوائي لأسعار المحروقات والسلع ما أدى إلى الإسراف في الاستهلاك وزاد من العجز في الموازين الداخلية والخارجية، وتفاقمت المديونية في الدول غير النفطية، وخفِّض التصنيف الائتماني لعدد منها، ما زاد من تكلفة الإقراض وساعد على تراجع التدفقات الاستثمارية. وأدى تكثيف استخدام اليد العاملة في مؤسسات الدولة إلى تحويل جزء من البطالة السافرة إلى بطالة مقنعة وعزز نمط المجتمع الريعي. فالسياسات الشعبوية تعكس نظرة قصيرة الأجل هدفها امتصاص نقمة الشارع وتهدئته، لكنها في المقابل تؤدي إلى تعميق المشكلات الهيكلية والاختلالات الاقتصادية. غير ان الأسواق المالية العالمية لا تتوقع حدوث انهيار مالي قريب في أي من هذه الدول، فالعائدات على السندات الطويلة الأجل المقومة بالدولار والتي تصدرها دول المنطقة ما زال عند مستويات مقبولة (أقل من خمسة في المئة) مقارنة ب 23.5 في المئة لليونان و11.5 في المئة للبرتغال. وهناك شبه إجماع على ان الأمور لا يمكن ان تدار كما في السابق، وإذا كان الهدف المنشود هو تحقيق النمو المستدام الذي يوجد فرص عمل منتجة ويؤمّن مقداراً أكبر من العدالة الاجتماعية ويقلص التفاوت في توزيع الثروة والدخل، فلا بد من تنفيذ برامج عمل فاعلة لبلدان المنطقة تشمل النقاط التالية: 1- طمأنة أسواق المال والمانحين والمقرضين والمودعين والمستثمرين، من طريق بعث رسالة واضحة بأن تفاقم العجز في الموازنات العامة، وارتفاع المديونيات وسياسات الدعم للأسعار، والتوسع في الإنفاق الحكومي، هي سياسات مرحلية مطلوبة في الظروف الاستثنائية الحالية تهدف إلى تهدئة الرأي العام وتخفيف العبء عن الناس، غير ان الدول ستعمل كل ما هو مطلوب للحفاظ على الاستقرار المالي في المدين المتوسط والطويل، وهذا يشمل وضع خطط مفصلة تمتد لخمس سنوات تظهر كيفية العودة تدريجاً إلى معدلات عجز ومديونية كنسب من الناتج المحلي الإجمالي مقبولة عالمياً. 2- إدارة توقعات المواطنين، خصوصاً الشباب الذين حركوا الانتفاضات الشعبية ليس فقط لاستعادة حريتهم وكرامتهم ووضع حد للاستبداد والفساد بل أيضاً لتحسين مستوى معيشتهم، لكن الأوضاع الاقتصادية ساءت ولم تتحسن. وعلى الحكومات ان تتفادى الوعود البراقة التي ترفع سقف التوقعات، ليدرك الجميع ان هناك فترة انتقالية لا بد من ان تمر بها الدول التي تشهد انتفاضات وتغيرات سياسية واجتماعية، يتراجع فيها النشاط الاقتصادي، وترتفع معدلات البطالة ونسب المديونية والعجز، تماماً كما حدث في إندونيسيا بعد الإطاحة بسوهارتو عام 1998 من طريق انتفاضة شعبية وكما حدث أيضاً في دول أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. 3- إعادة الاعتبار للقطاع الخاص الذي خسر جزءاً من صدقيته في السنوات العشر الماضية، فهو مُتهم بأنه ساعد في تفشي الفساد، ولم يعطِ الاهتمام الكافي للمجتمع الحاضن له، ولم يعمل المطلوب لتدريب الشباب وتأهيلهم، وكان جل اهتمامه مركزاً على تحقيق الربح السريع وزيادة العائد على رأس المال. ولذلك على قطاع الأعمال تعزيز ثقافة الريادة في المجتمع، وتقديم كل مساعدة ممكنة لحفز الشباب على أخد المبادرة والبدء بمشروع أو فكرة جديدة، وتأمين التدريب والتأهيل لهم، والتكاتف مع المؤسسات الحكومية والمصارف وصناديق رأس المال المغامر لتقديم التمويل المطلوب. 4- التكامل والتعاون العربي أصبح اليوم ضرورة ملحة وليس تمنيات بعيدة من الواقع أو سياسات تناقَش في أروقة الجامعة العربية ومؤسساتها المستقلة. فالمنطقة العربية تستطيع التصدي للتحديات الاقتصادية والاجتماعية من طريق تفعيل التعاون الإقليمي، ويتطلب هذا التعاون قبولاً من دول الفوائض بأن مصلحتها تقوم على مساعدة دول الجوار لتحقيق الاستقرار والأمن الاجتماعي والاقتصادي والذي إذا ما حدث سينعكس إيجاباً على المنطقة بمجملها. وكما فعلت دول المجموعة الأوروبية عندما قدمت الدعم للدول الأعضاء التي تعاني من مشكلات تفاقم الديون وضعف الأداء الاقتصادي، على الدول العربية الغنية ان تؤمّن مزيداً من الدعم المادي لدول «الربيع العربي» وتلك المتأثرة به خلال المرحلة الانتقالية سواء من طريق تمويل العجز في الموازنات لفترة زمنية محدودة أو توجيه التمويل طويل الأجل لمشاريع البنية التحتية والعمل لإيجاد حلول إقليمية للمشكلات الاقتصادية القائمة. إذا استثمِر جزء من هذه الفوائض في دول الجوار فهذا سيساعد في تقليص الأخطار من طريق تنويع المحفظة الاستثمارية لدول الفوائض وتحقيق عائدات أفضل على هذه المحفظة. وعلى الدول التي تشكو عجزاً في ميزانياتها ان تفكر جدياً في طرح صكوك متوسطة إلى طويلة الأجل ذات نسبة أخطار مدروسة وعائدات مقبولة ومرتبطة بمشاريع بنية تحتية محددة. وقد تكون هذه الصكوك مقومة بالدولار أو بالعملات الخليجية وسيلاقي إصدارها طلباً جديداً في أسواق دول المنطقة فهناك فوائض من الودائع غير الربوية تبحث عن مجالات استثمار مناسبة. ويجب ان لا يبقى استقطاب الاستثمارات منصباً على حكومات دول المنطقة الغنية، بل يمكن الاستفادة من مدخرات المغتربين وحضهم على الاستثمار في مشاريع صغيرة ومتوسطة ذات عائدات مجدية في البلدان الأم. أثبت الشباب أنهم قادرون على عمل المستحيل في الجانب السياسي، فنجحوا في كسر عقدة الخوف وغيروا أنظمة كانت في الغالب قائمة على الاستبداد، وهم قادرون أيضاً على تحقيق ما هو مستحيل اقتصادياً إذا توافرت لهم البيئة التي تحتضن الرياديين والمبدعين وتمكنهم من استغلال طاقتهم في الشكل الأمثل. يجب إذاً عدم النظر إلى أعداد الشباب المتنامية والداخلين الجدد إلى سوق العمل على أنهم مشكلة مستعصية على الحل، فالشباب هم جزء من الحل. والمبادرات الخلاقة إذا تحققت تؤمّن فرص عمل ليس فقط للرياديين بل أيضاً لعدد كبير من الشباب القادر على التأقلم مع اقتصاد رقمي قوامه في الغالب شركات صغيرة ومتوسطة. * مستشار لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في «دويتشه بنك» - دبي